الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق 19 جمادى الأولى 1446

مارس حريتك بالكتابة على الورق الأبيض

99
المستقبل اليوم

مارس حريتك بالكتابة على الورق الأبيض


في السنة الثانية من الدراسة الجامعية ، توسط لي الاستاذ أحمد عمر مدير مكتب الجمهورية في أسيوط حتى اراسل مؤسسة أخبار اليوم ، كان ذلك في عام 1996 وكان مكتب أسيوط شاغراً بعد وفاة مديره ، كان رجلاً مشهوراً لكنِ لا أذكر اسمه الآن ، كتب لي الأستاذ أحمد عمر كارت توصية للأستاذ عصام عبدالحافظ مدير تحرير أخبار الرياضة في هذا الوقت ، وهو بلدياتي من أسيوط ، ذهبت اليه وحكيت له انني ادرس فى القاهرة واريد ان اراسل الصحيفة صيفاً من أسيوط ، اخذني وسلمني للأستاذ جمال حمزه ، وكان صحفياً بارعاً ضمن كتيبة مجلة أخبار الحوادث الاكثر انتشاراً في هذا الوقت .

شرح لي الأستاذ حسين حمزه كيف اكتب وكيف ارسل له ما يحدث ، وانصرفت عائداً الى أسيوط ، وقتها كان الدكتور محمد رجائي الطحلاوي محافظاً ، وكان رجلاً شديد الأدب ومتعاون لدرجة كبيرة ، يحب الصحافة ويحترمها بقدر حبه للكلمة والعلم ، فقد كان عميداً لكلية الهندسة ثم رئيساً لجامعة أسيوط ، وظللت اتردد على المحافظة ومديرية الأمن والجامعة وبقية مرافق ومصالح أسيوط الحكومية .


كان أول ما فعلته تغطية حادث ثأر في مركز أبنوب الذي انتمي اليه ، في قرية المعابدة ، وهي قرية شديدة التعصب والكرم أيضاً ، في يوم زفاف عروسين قتل في اكثر من 6 أشخاص بعد مشادة عنيفة بسبب إمساك العريس بيد عروسه ، ثم توالت المصائب" اقصد الحوادث ، وفي كل يوم كانت تحدث "مصيبة" حادثة أهرول مسرعاً لتغطيتها ، أجواء أسيوط حارة صيفاً بالقدر الذي كان يلتصق فيه الحذاء بالأسفلت ، لكن ورغم المعاناة كنت استسيغ ذلك بشيء من الشهرة ، عندما يراني الناس ويقولون هذا صحفي في مؤسسة .


بدأت اراسل الصحيفة بطريقتي ، يعني كنت اكتب على ورق ملون وعليه ورود ، وكأني ارسل خطاب لمحبوبتي ، ثم اضع الورقة في مظروف لونه يليق بالحبيبة ، كنت اكتب على ورق لا يتناسب مع الكلام الذي يحويه وكمية الدم الموصوفة داخله .

قبل النشر كان يدور بمخيلتي ان صفحة الحوادث لن تتسع لما اكتب ، ولن يجد الصحفيون الاخرون مساحة لنشر موضوعاتهم ، وبعد النشر كنت اجد الحادثة منشورة على عمود في 5 سم وصورة صغيرة ، ولا اعلم ما هي المعايير التي توضع ويتم إعطاء مساحة للنشر على اساسها ، هل هي المحسوبية ام اهمية الموضوع ام القرب من المركزية .

وما بين الحين والأخر كنت اتردد على المؤسسة بالقاهرة ، وفي فترة الدراسة كنت اذهب اسبوعياً لأخبار اليوم واسافر كل اسبوعين الى اسيوط لتغطية موضوع ما ورؤية الناس واستمد شيءً من القوة والتشجيع ، فأنا "ليمونة في بلدخ قرفانة".


واعترف بأنني واجهت مصاعب كثيرة في هذين العامين ، وشعرت فعلاً بمقولة "مهنة البحث عن المتاعب"، وهي لم تكن متاعب بالمعنى المتعارف عليه خاصةً لمن هم في سني ، لكنها كانت قلة امكانيات ، فلا سيارة ولا حتى مظلة تقي من حر الصيف ولا مصادر تحتضنك ولا مؤسسة تدفع لك راتباً شهرياً ولا حتى مساحة نشر كافية ترضيك بعد كل هذه المعاناة ، كل ما هنالك إثبات الوجود وفرض نفسك على مجتمع يتقرب ممن يتقربون من المسئولين ويقدسهم ويحترمهم ، وهو احترام للسلطة مهما كانت وليس لشخص بعينه .


بعد ذلك عملت في الصحف المستقلة، وللأمانة كان العمل فيها ممتعاً واشد تأثيراً وقوة ، تكتب ما يحلو لك وتحصل على المساحة اللازمة وبعض المكافأت حتى لو كانت زهيدة ، تعلمت فيها كيفية الكتابة على ورق "الدشت"، والذين يعملون فى المهنة يعرفون ما هو ورق "الدشت".

كنت أجد رحابة وسعت صدر ومنافسة واتساع فى المجال أكثر من العمل في الصحف الحكومية التي يتصارع فيها العاملين على المكافآت والمناصب اكثر من صراعهم على الفكرة والموضوع الجيد ، وهذا حال كل مؤسسات الدولة ، ولهذا ضربت الصحافة المستقلة الصحافة الحكومية في مقتل ، وفي عام 2004 خرجت منابر كبيرة كصحيفة المصري اليوم وانضمت للميدان والدستور وصوت الامة والاسبوع وغيرهم ، بعدهم ظهرت اليوم السابع والوطن والشروق ،وتراجعت مبيعات الصحف الحكومية ولم يعد يرضي الناس ما ينشر بها ، اللهم إلا بعض المقالات لكبار الكتاب امثال: انيس منصور واحمد بهجت وفهمي هويدي وابراهيم سعده وسلامه احمد سلامه وعبدالمعطي حجازي والدكتور ميلاد حنا ومكرم محمد احمد وعادل حموده واحمد رجب ورفيقه مصطفى حسين ، وعشرات غيرهم .


ظللت أسأل نفسي : لماذا نكتب على ورق "الدشت"، وهو ورق أبيض غير مسطر ؟ ، لم يكن أحد يجيب على هذا السؤال ، وبما أنني جربت الكتابة على الورق المسطر ، استطيع ان اقول لكم ، انه غير مريح لا للعين ولا للقلم ، الاسطر التي فيه لا تمنحك الحرية الكافية لأن تكتب وتعبر عن ما بداخلك ، هي تقيدك بالقدر الكافي ، أما الورق "الدشت" الغير مسطر فبحره واسع ، ليس به حدود توقفك عند حد معين ، الورق يتسع لأن يكون خطك مستساغ او غير مستساغ ، تكتب بالطول والعرض دون ان تجد سد منيع يوقفك ، الورق الأبيض يعني الحرية المطلقة ،يعني الغوص في اعماق نفسك دون منازع ، يعني الإبحار في عالم خاص غير تلك العوالم المغلفة بسدود منيعة ، حتى الرسامين والفنانين التشكيليون يمارسون فنهم على لوحات بيضاء .


الحرية أشبه بالورق الأبيض، عندما تريد ان تبدع في أي مجال ، لا شيء يقيدك لا شيء يوقفك ، لا شيء يمنع مرورك شمالاً ويميناً ، لا أحد يشتريك كي تكتب ما يريد ، أنت تسطر ما يحلو لك دون قيود ، اللهم إلا ما تعارف عليه المجتمع والالتزام بالاخلاق والدين ، حتى الاخيرة هذه اخترقها البعض وهاج عليهم المجتمع ، لكنهم استمروا دون ان يوقفهم أحد .


والحرية هي التي جعلت مجلة مثل روزاليوسف يحجز الناس نسخها قبل الصدور بأسبوع واثنين ، وهي التي جعلت صحيفة كالدستور تدخل كل بيت وتقرأها كل سيدة وفتاة وشاب، وهي التي جعلت الناس تتجه للشاشات الخاصة ، وهي التي افرزت اعمال درامية وفنية ومسرحيات تناقش كل شيء ، وهي ايضاً التي اوجدت الصحافة الصفراء ، لكن صفارها لم يكن اشد بؤساً من وسائل التواصل الاجتماعي الآن ، الحياة الثقافية كان بها حراك مستمر، كان لدى الناس أشياء كثيرة تشغلهم وتشبع رغباتهم ، بها كانوا يتغلبون على فقرهم وجوعهم ، إشباع العقول أحياناً يغنيك عن إشباع البطون  ، طبعاً لم تكن الدنيا مبهجة مثل الآن ، فلم تكن هناك مولات للتسوق ولا صالونات حلاقة فاخرة ولا ماركات احذية غالية ولا كافيهات بالشكل الموجودة عليه الآن ، كانت الأشياء بسيطة ، غير انها كانت مبهجة في جوهرها ، الأشياء الآن مبهجة في مظهرها فقط ، وسط البلد كانت ساحة للفكر والثقافة والأدب والفن والفسحة والفرجة والتسوق والانبساط والتسكع ، شارع جامعة الدول العربية وميدان سفنكس واحمد عرابي ، كانوا ملاذاً للعرب والعجم ، المجتمع لم يكن فيه سياسة العزل العنصري التي جاءت مع تدشين الكمبوندات واتساع اعداد المدارس والجامعات الخاصة ، الكل كان يتكلم لغة واحدة لأنهم كانوا ينهلون من منهل واحد ، تجد المدرسة بها ابن الوزير والخفير والفلاح والموظف والسباك والنجار ومن هم بدون عمل ، وكذلك البنايات أيضاً وحتى المقابر ، الجميع خرجوا من رحم واحدة وعاشوا في مكان واحد وقبورهم تحتضن بعضها ، هذه القبور كانت على مقربة من البيوت وليست على بعد ربع ساعة من كارفور ولا مدينتي ولا الرحاب .

والذين لايزالون على قيد الحياة من كبار السن يحكون لكم عن زملاء الدراسة والمسكن الذين اصبحوا سفراء واطباء ومهندسين واعلاميين وكتاب وادباء ورجال اعمال وقيادات في الحكومة ، الكل يحكي عن صغره وحياته معتزاً بها .


أما الآن فالمجتمع قل رغم كثرته ، والأرض ضاقت رغم تباعد رقعتها ، والحياة اظلمت رغم كهاربها ، والشوارع ضاقت رغم اتساعها ، والصحف ما عادت توزع ، والاقلام جفت ومات الكتاب والأدباء ، ولم يعد للورق الأبيض "الدشت"، قيمة بعد ان حل مكانه الورق المسطر الذي حبس الجميع بين سطوره وحدوده .


#حكاوي_علام #عثمان_علام




تم نسخ الرابط