الجمعة 11 يوليو 2025 الموافق 16 محرم 1447

الواسطة في قطاع البترول..أزمة أم ثقافة متوارثة؟

870
المستقبل اليوم

عندما تطالع هذا العنوان، فإنه لا شك يستنفر داخلك موجات من الغضب والعصبية، لأننا جميعًا نعتبر الواسطة نوعًا من سرقة الأحلام والطموحات. لكن قبل أن تنجرف في هذه المشاعر، علينا أولًا أن نُمعن النظر في جذور هذه الآفة المجتمعية التي نعاني منها منذ قرون، دون أن نجد لها علاجًا ناجعًا.

الواسطة ليست وليدة أيامنا هذه، ولا هي حكر على قطاع البترول كما يظن البعض. بل ترجع جذورها إلى العهد العثماني، حين كانت مصر تتبع الباب العالي في إسطنبول، وسادت البيروقراطية التركية العتيدة التي زرعت بذور المحسوبية في المجتمع. حتى بعد تخلص مصر من الحكم العثماني ثم الاحتلال الإنجليزي، ظل الاقتصاد قائمًا على الزراعة والاعمال الحرفية والتجارة، حتى جاءت ثورة يوليو 1952 لتُحدث تحوّلًا جذريًا في شكل المجتمع، ثقافيًا واجتماعيًا.

دخل أبناء الفلاحين والعمال الجامعات والمجالس النيابية، وبدأت قيم العمل اليدوي في التراجع، لتحل محلها ثقافة الوظيفة الحكومية “الميري” باعتبارها حلمًا يضمن الأمان والاستقرار. ومع التحسن النسبي في الظروف الصحية، شهدت البلاد نموًا سكانيًا متسارعًا، رافقته زيادة في الطلب على فرص العمل، ما أدى إلى ندرة في الفرص وتزاحم غير مسبوق عليها. وفي ظل هذه الندرة، نشأت الحاجة إلى العلاقات والتوصيات، فبرزت الواسطة كوسيلة شبه حتمية للحصول على فرصة.

هذا التلخيص لا يغني عن تفاصيل وتحولات اجتماعية أعمق ساهمت بدورها في ترسيخ الواسطة كعنصر فاعل في الحياة اليومية. وقطاع البترول، كغيره من قطاعات الدولة، لا ينفصل عن الثقافة المجتمعية السائدة، بل يسري عليه ما يسري على باقي شرائح المجتمع.

برز المجتمع الوظيفي البترولي في الثمانينيات كواحد من أكثر البيئات المهنية تميزًا، يُنظر إلى العاملين فيه باعتبارهم من “الصفوة” نظرًا لتعاملهم مع الأجانب، وفرص السفر والرواتب المجزية مقارنة بقطاعات الدولة الأخرى، فضلًا عن الامتيازات المتعددة التي يحظون بها. وفي هذا السياق، ظهرت الواسطة في قطاع البترول بشكل مختلف، يقوم على عناصر خاصة لا تجدها في قطاعات أخرى.

أولى هذه الصور، هي رغبة بعض العاملين في “توريث” وظائفهم لأبنائهم، وهو أمر تخوض فيه القيادات العليا معارك قبل بلوغهم سن التقاعد، ينجح فيها البعض ويفشل آخرون، ولا ينافسهم في هذا الاتجاه سوى بعض كليات الجامعات، لا سيما كليات الطب والحقوق.

الصورة الثانية – وهي الأكثر قسوة – تتجلى في عملية الاختيار والتفضيل في شغل الوظائف القيادية، والتي لا تخضع دائمًا لمعايير الكفاءة، بل تُبنى في أحيان كثيرة على اعتبارات اجتماعية، أو تفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة، فضلًا عن تشابكات المصالح مع جهات من خارج القطاع. يُغذّي ذلك شعور متأصل لدى كل موظف أو قيادة بأنه الأجدر، وأن عدم اختياره يعد كارثة قومية، رغم أن الواقع قد يكون مغايرًا تمامًا!

ومع ذلك، فإن الحقيقة التي تؤكدها الأيام هي أن الواسطة لم تكن يومًا بوابة مضمونة للنجاح أو التميز، إلا إذا كان الشخص المختار مؤهلاً فعليًا. فهناك من جاء بالواسطة وحقق إنجازات حقيقية، كما أن هناك من طواه النسيان وأصبح مصدرًا للسخط والشكوى.

تأتي بعد ذلك العوامل الشخصية والعاطفية، التي تطغى على قراراتنا في أحيان كثيرة، ومنها “الارتياح النفسي” تجاه مرشح ما، بغض النظر عن قدراته أو مؤهلاته، وهو شعور لا إرادي متجذر في الشخصية المصرية، يصعب إنكاره أو تجاهله.

ومن أخطر صور الواسطة أيضًا، تلك التي تتجلى في تعيينات الشباب الجدد، وهي منظومة تحكمت فيها ظروف السوق وفرص التوسع على مدار عقود، وانتهت – للأسف – بإغلاق الباب بشكل شبه تام أمام الأجيال الجديدة، خاصة مع انخفاض الإنتاج واتساع الفجوة بين العرض والطلب. وتحولت الواسطة هنا إلى معضلة أكثر تعقيدًا بعد لجوء البعض لنظام “عمالة المقاول”، الذي انقلب بدوره إلى مشكلة ذات أبعاد اجتماعية وإنسانية مؤلمة.

لا يمكن في هذه المساحة المختصرة الإحاطة بكل أنواع وأشكال الواسطة في قطاع البترول، لكن الهدف من هذا الطرح هو فتح باب النقاش الهادئ والمسؤول، بعيدًا عن الانفعالات أو تجاوز ضوابط النشر. ونتطلع من خلال مشاركات المتخصصين والخبراء المخضرمين إلى تعميق النقاش وتحليل جوانب المشكلة، ووضع تصورات عملية قابلة للتطبيق لتحجيم هذه الظاهرة المؤرقة، بما يتماشى مع معطيات الواقع واحتياجات المستقبل.

فلنبدأ هذا الحوار معًا، ونسعى نحو صيغة أكثر عدلًا وشفافية في منظومة الاختيار والتعيين داخل قطاعنا الحيوي، لعلّنا نُسهم في ترسيخ معايير الكفاءة الحقيقية، وتكافؤ الفرص، ودعم قيادة واعية وقادرة على الإصلاح.

المستقبل البترولي




تم نسخ الرابط