الإثنين 03 نوفمبر 2025 الموافق 12 جمادى الأولى 1447

مروه عطيه تكتب... جلست مصر مع نفسها وقالت لاشيء يشبهنى

143
المستقبل اليوم

في صباحٍ مهيبٍ من صباحات الخلود، جلست مصر مع نفسها. وضعت تاج الشمس فوق رأسها، ونظرت إلى ضفاف النيل كأنها تستدعي ذاكرة الحضارات التي سكنت ضوءها. كانت تعرف أنها اليوم على موعدٍ مع مرآتها، مرآةٍ من حجرٍ وتاريخٍ وضوء، اسمها المتحف المصري الكبير.
لم يكن هذا الافتتاح مجرد حدث ثقافي، بل كان لحظة استثنائية التقت فيها مصر بتاريخها، فمدّت يدها إلى آلاف السنين الماضية وقالت لها: "عودي إليّ كما كنتِ، لا كذكرى، بل كحياة."
منذ أن وضِع حجر الأساس لهذا الصرح العملاق على مشارف الأهرامات، كان الحلم يتكوّن بهدوءٍ يشبه المعجزة. أن تبني مصر متحفها الأعظم على أرضٍ شهدت مولد حضارتها الأولى، فذلك ليس مصادفة، بل وعدٌ قديم بين الأرض وأبنائها: أن يبقى المجد هنا.
في كل زاوية من المتحف، تتحدث الحجارة بلغةٍ لا تُترجم. التماثيل لا تُعرض، بل تتقدّم لاستقبال زائريها كأنها تعرفهم منذ الأزل. هناك رمسيس الثاني، بوجهه المهيب وابتسامته التي لا تعرف الزوال، يقف في قاعة الاستقبال كأنه الحارس الأبدي للزمن. عيناه لا تنظران إلى الأمام فقط، بل إلى المستقبل، كأنما يقول لكل من يراه: أنا هنا منذ البداية، وسأكون في كل بدايةٍ جديدة.
تتوزع القطع الأثرية بين أجنحةٍ فسيحة صُممت بعبقريةٍ تحاكي روح مصر القديمة بلغة العصر الحديث. الضوء يتسلل عبر الزجاج كأنما يكتب سطورًا من ذهب فوق ملامح التماثيل. لا شيء هنا يُعرَض عبثًا؛ كل قطعة تحكي حكاية وطنٍ علّم الدنيا معنى الخلود.
يضم المتحف أكثر من مائة ألف قطعة أثرية، لكن ما يميّزه ليس العدد، بل الروح. تلك الروح التي تسكن المكان فتجعله يعيش ويتنفس. هنا لا يقف الزائر أمام التاريخ، بل يمشي بداخله. يسمع صدى الملوك وهم يخطّون وصاياهم، ويرى وجوه الحرفيين الذين نحتوا الجمال بعيونٍ من دهشة وإيمان.
في أروقة المتحف، تتجاور حضارات مصر القديمة مع بصمة المهندسين والفنانين المعاصرين، وكأن الماضي والمستقبل قرّرا أن يتصافحا أخيرًا.
المبنى ذاته قطعة فنية؛ خطوطه تمتد نحو السماء كأنها مناديل ضوءٍ ترفع الحلم عاليًا. وعلى مقربةٍ من الأهرامات، يقف المتحف شاهدًا جديدًا على أن مصر لا تكتفي بأن تكون صاحبة التاريخ، بل صانعة المستقبل أيضًا.
وحين أُضيئت الأنوار في لحظة الافتتاح، شعرت مصر أنها استعادت نفسها. جلست في قلب التاريخ وقالت بصوتٍ يملأ الكون:
> "لا شيء يُشبِهُني،
فأنا التي علّمت الحجر أن يتكلم،
والنيل أن يغنّي،
والسماء أن تنحني احترامًا للجمال."
هذا الافتتاح لم يكن احتفالًا بمبنى من حجارة، بل بعهدٍ جديد بين مصر وتاريخها. عهد أن تُروى الحكاية كما يجب، وأن يظل الماضي حيًّا في ضمير الحاضر، لا كتراثٍ جامد، بل كنبضٍ يذكّرنا من نحن.

في تلك الليلة، لم تكن الأضواء التي أُطلقت في السماء احتفالًا فحسب، بل كانت إعلانًا أن مصر جلست مع نفسها، وتحدثت بصدقٍ لا يعرف الزيف، وقالت:

> "أنا أمّ الحضارات، وأنا النور الذي لا ينطفئ،
قد تتغير العصور، لكن وجهي يظل واحدًا،
لأن لا شيء... لا شيء يُشبِهُنى




تم نسخ الرابط