للاعلان

Wed,24 Apr 2024

عثمان علام

كلمتين ونص…السيئون والأكثر سوءً

كلمتين ونص…السيئون والأكثر سوءً

الكاتب : عثمان علام |

09:46 pm 30/09/2021

| رئيس التحرير

| 3805


أقرأ أيضا: اقتصادية قناة السويس تشهد مراسم افتتاح مصنع CSCEC لتصنيع الهياكل الفولاذية

 

قد نظن أن كل الذين قابلونا فى الصغر ، كانوا أشخاص سيئين للغاية ، لا أعرف هل هذا بسبب البيئة القاسية أو المكان الذي ولدنا فيه أم حرارة الشمس التي جعلت "الأعراب أشد كفراً ونفاقا"، أم بسبب كثرة السيئين أنفسهم في كل مكان .

 

أذكر منذ 35 عاماً ضربني عمي بقوة لاذهب للمدرسة ، وكنت أكرهها بشدة بسبب الاستيقاظ مبكراً ومعاملة المدرسين القادمين من المدينة ، وحتى مدرسين القرية الذين كانوا يرعبوننا إذا أخطأنا فى الإجابة مهددين ب"هقول لأبوك".

 

علا صوت صراخي من أمام بوابة المدرسة ، وراح عمي يضربني ويصفعني على وجهي حتى خرجت المُدرسة "اقبال"، هكذا كان أسمها ، لم نعرف معنى كلمة "مس" وقتها ، ولا أتذكر اسم والدها ، راحت تحتضنني وتقبلني وتهدأ من روعي ، "لم أشعر بحرارة القبلة ، ربما لو قبلتني الآن لشعرت ، لكني شعرت بالحنية المفرطة والمفتقدة وتناسيت ألم يد عمي الخشنتان من ري الأرض والغوص فى الطين ، شعرت أن هناك أشخاص أخرون على ظهر هذا الكوكب مختلفون عن عمي الذي يضربني بشدة .

 

المهم أنطلقت معها للفصل وأنا فرح بوجودها ، فقد بات لي ظهر فى المدرسة ، لكني لازلت أخاف من الأستاذ صالح مدرس الحساب الذي كان يعلقنا على الباب "الطيارة"، والاستاذ منصور مدرس الزراعة الذي كان يرفع صوته ويشهر عصاه ، والأستاذ عبدالكريم الذي يُخيف الجميع بمجرد الدخول ، غالباً كلهم كانوا عدوانيين لا يجيدون سوى الضرب ، ما عدا المدرسة "إقبال"،الفصل كان به أكثر من 20 ، لم يكن يرق قلب المدرسين سوى لاثنين أو ثلاثة والباقي وكأنهم أعداء ، وهكذا كانت المدرسة وجبة من العذاب اليومي عليك أن تتجرعها .

 

بعد مرور السنين ، رأيت أن عمي الثاني ، كان شخص أكثر سوءً من عمي الأول ، الذي كان يضربني من أجل الذهاب للمدرسة ، تذكرت كلمات عمي نادي وهو ينزل من سيارته ليمنع عمي الأخر من ضربي ، ويقول له : "لا تضربه سوف يموت في يدك أتركه بلاش يروح المدرسة هو هيطلع أيه يعني"، فرحت بكلماته في ذلك الوقت ، لازلت أحفظ مفرداتها ، لكني عندما كبرت وبدأت اتصالاته تنهال عليَّ كل مرة يطلب فيها شيئ ، تأكدت كيف أنه كان إنسان سيئ بجدارة ، كان يريد أن لا أذهب للمدرسة ، فلو كان جيداً حقيقياً لمنع عمي الأخر من ضربي وكفى ، واصطحبني هو للمدرسة ، لكنه كان يريد أن أصبح فلاحاً فى الارض أو سائقاً للمحراث وربما اسطى أُصلح له سيارته .

 

التجربة أثبتت أن كل الناس غالباً ما يتعاملون معك بوجه قبيح طوال الوقت ، حتى يدركون من أنت، وعندما يدركون يجدونك قد هرولت ولا تستطيع أن تقابل أو ترد على أحد منهم ، يكفي ما فعلوه حتى تهجرهم جميعاً .

 

مثلاً أحياناً تذهب لموظف في مصلحة ما أو تستوقف عامل في طرقة ، أو تطلب مساعدة من ممرضة في مستشفى ، ‎%‎90 من هذه الفئات لا يتعاملون معك باللين أبدا ، هم غالباً لايردون على سؤالك إلا بجملة واحدة يكونوا قد حفظوها ويردوا بها على الجميع "تعالى بكره والأستاذ فلان مش موجود".

 

ثم هذه الممرضة التي ترتدي ثوب الملائكة ، كيف لها أن تكون حادة مع من يسأل ، وكيف كانت معاملتها مع المريض الملقى على السرير دون حول ولا قوة منه ؟، يبدو أنها ضربته في وجهه عدة لكمات أو خنقته حتى كاد أن يفقد أنفاسه الأخيرة .

 

كل هؤلاء يظلون سيئون حتى يعرفون أنك صديق المسئول الفلاني أو انك جئت لتحقق مع أحد منهم أو جئت للقبض عليهم جميعاً ، المهم أنهم يدركون أنك ذو سلطة ما ، فيتحولون لأشخاص أكثر سوءً بنفاقهم ومحاولة تقربهم وإبداء الاسف على ما اقترفوه في حقك .

هل تذكر ايامك الأولى فى العمل ، وكيف أن مديرك يعاملك وكأنك جئت لتسحب الكرسي من تحته ، وكيف أن زملائك متأففون منك "ما الذي جاء بهذا الشخص ، هي المشرحة ناقصة قتلى"، وهكذا حتى يعرفون أنك إبن فلان أو قريب فلان ، بعدها هاتك يا ود ويا حب ، أو يكتشفون مثلاً أنك ثري وتستطيع أن تقرضهم ، أو معك سيارة فتحملهم معك إلى منازلهم وترحمهم من الزحمة ، تتحول بعد قليل للحاكم بأمر الله ، كلهم يطلبون منك الود .

 

ترى كيف أصبحوا أكثر قبحاً ونفاقاً ، وماذا لو أنك ولدت في هذه الدنيا بدون مال ولا سند ولا عزوة ولا سيارة ولا واسطة ؟، تخيل حياتك كيف تبدو !

 

تذكرت كم كان سكرتير التحرير قاسياً في معاملته ، كان يلقي معظم الأعمال فى الأدراج ، لا يكلف نفسه عناء تعليم الصغير ، ولا يرد بكلمة طيبة ، الأيام وحدها صنعت الصداقة ، وبات السيئون أكثر قرباً من ذي قبل .

حتماً الجميع مروا بهؤلاء الأشخاص السيىئين ، منهم من اكتشف بعد ذلك إن إساءتهم كانت دفعاً للأمام ، ومنهم السيئون بطبعهم ، فقد تركوا جرحاً لا يندمل أبداً ، ربما لا تستطيع النفس البشرية الصفح والسماح "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها". 

 

أنا مثلاً وفى الكثير من المواقف ، أرى أن معاملة عمي لم تكن سيئة للدرجة التي جعلتني أكرهه بشدة ، كان يريد أن اتعلم وأصبح ذو شأن في المجتمع ، ربما كانت أقصى أمانيه أن أكون موظف بالجمعية الزراعية واساعده في الاقتراض على الحيازة ، أو موظف فى السجل المدني فانهي له اوراق بطاقته بسرعه ، أعتقد أن خياله لم يكن يتخطى ما يراه بعينه ، المهم أنه كان إنساناً محباً لكنه فشل فى التعبير عن هذا الحب ولم يجد غير الشدة فقط ،"العصا لمن عصى"، كان يملك أدوات غير الشدة ليجعلني أحب المدرسة والحياة وأحب نفسي .

 

فى المجتمعات الفقيرة لا تحدثني عن المعاملة باللين ولا المشاعر ، ولا توجد كلمة "بالراحة"، هي ليس لها معنى فى القاموس الشعبي ، الظروف القاسية والشمس المحرقة وبرد الشتاء يجعلون قلوب الناس أشد قسوة من الحجارة ، كما أنهم لا يعرفون معنى للأستثمار فى البشر ، ولا يدركون كيف أن الأبناء هم مدخرات الحياة .

ترون كيف أن آلاف الأسر أمتنعت عن تعليم أبناءها لينزلوا سوق العمل ويأتون بالأموال ، ورأيتم كم عدد عمالة الأطفال والمشردون فى الشوارع ، ورأيتم حجم الأمية فى القرن الماضي .

 

المشكلة أن هذه المجتمعات غالباً ما تفرز أشخاص معقدون كهؤلاء الاشخاص السيئون الذين نقابلهم في اول يوم عمل فى الشركة والمؤسسة والمستشفى والسجل والشهر العقاري والمرور وعلى أبواب المطارات ، السيدة أعتدال التي ترفض السماع لك حتى تعرف ماذا تريد .

 

لن تجد بكثرة شبيه للمدرسة إقبال التي قبلتني فى اول يوم دراسة ، كل من تقابلهم ستجدهم وحوش ضارية ، يظلون يطاردونك حتى يتأكدوا أن لك أنياب ، تستطيع أن تنهي حياتهم بعضة واحدة ، إذا اقتربوا منك .

 

راجع نفسك ، فقد تجد السيئون ما كان لهم أن يفعلوا غير ما فعلوا ، والحمد لله على ذلك ، أما الأكثر سوءً فكان لديهم ما يقدمونه لكنهم لم يتكلفوا عناء تغيير نهجهم السيئ .

أقرأ أيضا: أصغر مهندسة مصرية تفوز بجائزة ستيفي لصناعة السيارات فى العالم

التعليقات

أستطلاع الرأي

هل تؤيد ضم الشركات متشابهة النشاط الواحد ؟