الخميس 26 ديسمبر 2024 الموافق 25 جمادى الثانية 1446

من النخيل إلى خطوط الأنابيب: كيف تسهم مخلفات صناعة التمور في المملكة العربية السعودية في تعزيز أعمال الحفر في أرامكو السعودية

44
المستقبل اليوم

من النخيل إلى خطوط الأنابيب: كيف تسهم مخلفات صناعة التمور في المملكة العربية السعودية في تعزيز أعمال الحفر في أرامكو السعودية


لحظات من التـأمل أثناء العناية بنخيله تقود أحد باحثي أرامكو السعودية إلى ابتكارٍ أسهم في تحسين كفاءة الحفر في قطاع النفط والغاز وحاز على جوائز


يعتمد الحفر في قطاع النفط والغاز على إضافة مواد ليفية سادَّة تمنع فقدان طين الحفر وفترات التوقف المكلفة
يمكن أن يُنتج نوى التمر مادة ليفية سادَّة تمنع فقد طين الحفر، تتسم بموثوقية وكفاءة أعلى وتكلفة أقل من الحلول السابقة
هذا الابتكار يدعم جهود أرامكو السعودية في توطين سلسلة التوريد، وتقليل المخلفات، إضافة إلى حل مشكلة الحفر التي طال أمدها

منذ آلاف السنين، والناس في الشرق الأوسط يعتمدون في كسب معيشتهم على نخيل التمور، وحصد الفاكهة، وصناعة السلال والحُصُر من سعف النخيل. ولكن ما علاقة مزارع النخيل التاريخية في المملكة العربية السعودية بأعمال النفط والغاز في أرامكو السعودية، التي لا يصل عمرها 100 عام؟ والإجابة هي نوى التمور، التي تبين أنها يمكن أن تكون مادة مثالية لزيادة كفاءة حفر آبار النفط والغاز.

ولا يقتصر أثر هذا الاكتشاف على تحسين أعمال الحفر فقط، بل يسهم في دعم جهودنا في توطين سلسلة التوريد وتقليل المخلفات من خلال استخدام منتج محلي قابل للتحلل بدلًا من المواد المستوردة.

 

سدّ مناطق فقدان السوائل

لكي نفهم كيف يمكن أن يؤدِّي نوى التمر دورًا في تحسين عمليات الحفر، من المهم أن نتذكر أن حفر الآبار ما زال عملًا شاقًّا، بغض النظر عن كونه قد يبدو عملًا روتينيًا. إذ إنه يتطلب المحافظة على الضغط في ثقب البئر، وهو التجويف الذي يجري حفره، من أجل المحافظة على كفاءة عملية الحفر، كما يجب إخراج ركام الصخور من الثقب ورفعه إلى السطح واستمرار دوران مثقب الحفر بسلاسة.

ولا يمكن لهذه الأعمال أن تتم إلا بوجود سائل الحفر، المعروف بـ "طين الحفر"، الذي يتم ضخه عبر أنبوب الحفر ليخرج من المثقب ويتم تدويره ليرفع إلى السطح ومعه أنقاض الحفر وشظايا الصخور. ولكن في بعض الأحيان، يتسرب السائل إلى مناطق مسامية في الصخرة تسمى (مناطق فقدان السوائل)؛ ما يقلِّل من دورة السائل، ويتسبب في تباطؤ عملية الحفر أو توقفها تمامًا، وينتج عن أوقات التوقف تأخير مُكلِف، تصل خسائره -إذا طال- ملايين الدولارات، من حيث الخسائر في الإنتاج وساعات العمل المهدرة؛ لذا تتم إضافة مواد ليفية سادَّة إلى سائل الحفر لسدِّ المسامات وعمل عازل يمنع تسرب السائل إلى المناطق المسامية أي مناطق فقدان السوائل.

وتصنع المواد الليفية السادَّة من مواد مختلفة بناء على ظروف الحفر والتركيب الكلي لسائل الحفر. ولكل منها مزاياه وعيوبه الخاصة، والأنواع الأكثر شيوعًا هي تلك المصنوعة من كربونات الكالسيوم، وهي غير مكلِفة، لكن كثرة استخدامها يمكن أن يؤدِّي إلى تلف الصخور المحيطة. أما الأنواع المصنوعة من البوليمرات فقد تكون أكثر فاعلية، لكنها أغلى ثمنًا، وقد اعتادت أرامكو السعودية عبر تاريخها على استخدام مواد تُسمى "سدَّادة قشور الجوز"، وهي منتج مصنَّع من قشر الجوز المستورد من الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن المهم الحصول على النوع المناسب من هذه المواد في المملكة العربية السعودية على وجه التحديد؛ لأن أنواع الصخور المسامية التي لطالما كانت بيئة مثالية لتشكُّل مكامن النفط والغاز من الوارد جدًّا أن تؤدِّي أيضًا إلى تشكيل مناطق فقدان السوائل. ونظرًا لسهولة فقدان سوائل الحفر، فإنه من شأن الأنواع الأفضل من المواد الليفية السادَّة أن ترفع من الكفاءة وتقلِّل من التكاليف والأوقات الضائعة.

نواة الفكرة الرائعة 

أما عن دور النخيل ونوى التمر في الأمر، فإليك الحكاية.
في أحد أيام إجازة نهاية الأسبوع، كان الدكتور محمد أمان الله، وهو باحث أعلى في مركز إكسبك للأبحاث المتقدمة، يعتني بحديقته في الظهران، ولفت انتباهه نخلته الباسقة، وكان من ضمن الأعمال التي يقوم بها للاعتناء بهذه النخلة، التشذيب باستمرار، وإزالة بقايا التمر والزوائد الأخرى، بعد صَرْم النخيل في كل عام. وبالطبع، بعد أكْل التمور والاستمتاع بمذاقها، يتبقى نوى التمر؛ ومن هنا بدأ محمد بالتساؤل ما إذا كانت هنالك إمكانية أن يستفاد من نوى التمر ليحلَّ محل قشور الجوز المستخدمة في المواد الليفية السادَّة لمنع فقدان طين الحفر التي تستوردها أرامكو السعودية.

فكرته هذه ربطت بين اثنين من أهم القطاعات الصناعية وأكثرها حيوية في المملكة العربية السعودية، وفي حال نجاحها، يمكن أن تحول مخلفات صناعة التمور إلى حل جديد للتحديات طويلة الأمد التي نواجهها أثناء حفر الآبار.


وبدأ هو وفريقه في مركز إكسبك للأبحاث المتقدمة بالعمل على نموذج أولي. وتوصلوا إلى عيِّنة بدت نتائجُها واعدة، وقرروا تجربتها مقارنة مع سدَّادة قشور الجوز الذي تستخدمه أرامكو السعودية.

 

شجرة نخيل التمر

التمور ضد الجوز


كان أداء المادة الجديدة الليفية السادَّة المانعة لفقدان طين الحفر المصنوعة من نوى التمر، جيدًا بقدر المادة الموجودة حاليًا، أو أفضل في بعض الحالات بسبب صلابتها التي تشبه صلابة كربونات الكالسيوم المستخدمة بالفعل في القطاع، وخصائصها الميكانيكية المشابهة لخصائص قشور الجوز. وفي عام 2015م، قدَّم الفريق طلب براءة اختراع لفكرة استخدام نوى التمر مادة ليفية سادَّة لمنع فقدان طين الحفر، بعد أن شجعتهم تلك النتائج.

وأثبتت الأبحاث الإضافية، بالشراكة مع مركز أبحاث النخيل والتمور بالأحساء عدم وجود تفاوت كبير بين جميع أنواع نوى التمور التي اختبرها الفريق أثناء العملية من حيث الخصائص الميكانيكية، بصرف النظر عن نوع النخيل أو المنطقة التي زُرعت فيها؛ لذا كانت جميعها مناسبة للاستخدام في المادة الليفية السادَّة.

ابتكار حائز على جائزة
وبعد أن شجعتهم النتائج، عمِل الفريق مع شركاء محليين لتوريد نوى التمور ومعالجتها بكميات كبيرة، وَفقًا لمواصفات محددة، وأطلقوا عليها اسم سدَّادة مركز الأبحاث المتقدمة أو "سدَّادة آرك".

وفي عام 2016م، شرعوا بإجراء تجارب ميدانية على ثلاثة آبار، إذ حفَر الفريق بعمق بضعة آلاف قدم في البئر الأولى قبل أن يكتشفوا فقدانًا جزئيًا للسوائل، فاستخدموا سدَّادة آرك، وسرعان ما لاحظوا انخفاضًا في فقدان السوائل.

ونجحت سدَّادة آرك في البئرين الأخريين بمستوى الأداء نفسه على الرغم من اختلاف ظروف الحفر في كل بئر. وفي الحقيقة، كانت النتائج مذهلة لدرجة أنه في عام 2017م فازت سدَّادة آرك بجائزة الابتكار التقني للعام في حفل توزيع جوائز النفط والغاز في الشرق الأوسط.


منع الهدر يمنع الاحتياج

لقد أثبتت سدَّادة آرك أن فوائدها أبعد من تحسين كفاءة الحفر وفاعليته، فقد ظهرت فائدتها أيضًا في الجهود المبذولة للتقليل من مخلفات صناعة التمور المحلية، حيث يتم توليد آلاف الأطنان من نوى التمور (أو العُجْم) سنويًا في المملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من احتمال أن تكون هناك قيمة لنوى التمور كمصدر حيوي لإنتاج الطاقة، وأنه يجري دراسة وتطوير العديد من استخداماته التجارية الجديدة ، بدءًا من القهوة إلى مستحضرات التجميل، إلا أنه يتم التخلص من أغلب نوى التمر ومخلفاته في مزارع التمور عبر الحرق، ما يتسبب في التلوث. وكان أحد الحلول الشائعة الأخرى للتخلص منها هو الدفن، ما يتسبب في جذب الحشرات التي تعيق نمو النباتات القريبة أو تؤثر سلبًا على إنتاج الحبوب. في حين يساعد استخدام نوى التمر في صناعة سدَّادة آرك في الحد من هذه المشاكل غير المرغوبة، وفي الوقت نفسه يجسد أفضل مبادئ: "إعادة التدوير والتقليل" في الاقتصاد الدائري.

ويساهم الاستغناء عن استيراد منتج أجنبي في الاستغناء أيضًا عن تكاليف النقل الدولي والانبعاثات الكربونية المرتبطة به. فبدلًا من شحن تلك المواد من أرجاء العالم، يمكن نقل المادة المعوضة لطين الحفر المفقود المصنوعة من نوى التمور من مسافة مئات الكيلومترات فقط، من نقطة إنتاجها إلى نقطة استخدامها، مما يقلل الانبعاثات الكربونية المتعلقة بها. 

غالبًا ما يمكن العثور على الابتكار في أماكن غير متوقعة: فقد حلت سدادة آرك محل سدادة قشور الجوز التي كانت مستخدمة في أعمال أرامكو الميدانية بصورة كلية، مما وفر على الشركة وعلى خبراء الحفر لدينا الوقت والجهد، وساهم في تحسين عملياتنا وكفاءتنا، ويعود الفضل في كل ذلك إلى لحظة إلهام هادئة جائت في حديقة.




تم نسخ الرابط