قالت عصا توفيق الحكيم وهى تحاوره: أتخيل القدر أحيانا بصورة رجل وقف فى ميدانٍ عام يحرِّك كفَّه فى الهواء، ويلعب بكراتٍ ثلاث كما يفعل الحواة، وقد اجتمع حوله الناس، كل يشاهد تلك الكرات تتراقص فى يد الحاوى، وقد كتب على الأولى: المال، وعلى الثانية: الصحة، وعلى الثالثة: راحة البال.
صاح القدر مزهوا فى الناس: أما من واحدٍ منكم يستطيع أن يفعل مثلما أفعل؟ فتقدَّم رجل ومد يده إليه قائلا: أعطنى الكرات، وأنا أفعل مثلما تفعل.
فأعطاه القدر ما طلب، فما كاد الرجل يلعب بها وتستقر فى يده كرة المال وكرة الصحة، حتى تسقط من يده كرة راحة البال، فتقدم ثالث ورابع وخامس وهكذا دواليك، وما من واحد استطاع أن يحتفظ بالكرات الثلاث جميعًا فى الوقت عينه.
فهتف القدر فى الناس: كفى كفى لا تحاولوا بعد الآن، إنه يُخيَّل إليكم أن هذا فى الإمكان ولكنه المستحيل، إن طمعكم وغروركم يعميانكم عن الحقيقة لا يمكن ليد إنسان أن تلعب بأكثر من كرتين من هذه الكرات الثلاث!.
أما عن الفن التشكيلى فيعترف توفيق الحكيم بفضله على نضج رؤيته الأدبية، مع إيمانٍ بأن الالتقاء بين الشرق والغرب يفتح الأعين عليهما معًا، وبأن البيئة الحديثة وما يسودها من جو المودرنيزم (الحداثة) تُفسِدُ حسن فهمه للأشياء، ثم يعترف بأنه اطَّلع على رأى النقاد فوجدهم يُفضِّلون (ما قبل موجة المودرنيزم) ورأوا هذه الأعمال الكلاسيكية هى الخليقة بالبقاء.
ثم يعود فيعترف بأنه موزَّع بين الكلاسيك والمودرن معترفًا بالصلة الوثيقة بين ما هو تشكيلى وما هو أدب. وبأن الكلمة إحدى صور الفن، مثلها مثل دقة الأزميل، ولمسة الفرشاة، كلها تنحدر من أصلٍ واحد متأصل فى الكيان البشرى منذ أن وُجد على هذه الأرض، وسكن الكهوف، فصوَّر على جدرانها من الآثار ما ظل بعضه باقيا إلى الآن، ويمضى توفيق الحكيم فيقول «الفن عندى خلق إنسانى جميل لا أكثر ولا أقل، وقد يكون فى المودرنيزم نفسه بعض جمال، ولكن ذلك لن يدعونى مطلقا إلى النداء بسقوط رافاييل ولا فونتين وبيتهوفن من أجل ثورة تأتى بجديد».
ويذكر توفيق الحكيم أنه قرأ لكاتبة فرنسية تقول: «إنه بعد عشرين قرنا من حضارة مفعمة بألوان البراعة الذهنية، وحياة الصالونات غدت الدنيا مثل غانيةٍ عجوز مفرطة فى الزينة والبهرج بمقدار بعث فى الناس عطشا إلى عصور الفطرة الأولى بناسها العراة وإحساسها المُجرَّد وأن قيمة الفن الحديث أنه يحاول أن يعيدنا إلى مصادر الإلهام الأولى فى الروح أو الأسلوب».
وكان طه حسين يعرف أى صنف من الرجال هو توفيق الحكيم، فيقول عنه- على لسان شهرزاد- فى كتاب «القصر المسحور» الذى ألَّفاه معا سنة 1937 ميلادية فى جبال الألب: «رأيته يظهر السذاجة، يخدع بها الناس عن نفسه، فإذا جاء حديث الفكر، رأيته بعيدا عن السذاجة كل البعد»، تقول شهرزاد لطه حسين: «أهو من السذاجة بحيث تصف لى، فإن كتابه يصوره معقدا أشد التعقيد». ويرد طه حسين: «ستجدين عنده السذاجة المريحة حين تحتاجين إلى الراحة، والتعقيد المضنى حين تحتاجين إلى الجد والتفكير».
وعندما كان طه حسين يلتقى بتوفيق الحكيم كان الحديث يدور بينهما عن شخصيات مسرحية شهرزاد التى ألَّفها توفيق الحكيم، وعن شخصية شهرزاد نفسها كما صوَّرها.
ويقول الموسيقار محمد عبدالوهاب إننى كنت أسكن إبان الحرب العالمية الثانية فى عمارة الإيموبيليا بالدور الأسفل لأتجنب وصول القنبلة إلىّ، وكان يسكن بجوارى فى بنسيون قريب توفيق الحكيم، فكانت الفرصة سانحة لكى يشترك معى فى تحويل إحدى قصصه إلى فيلم سينمائى، وهو «رصاصة فى القلب» الذى عرض يوم ٢٧ من مارس سنة ١٩٤٤ميلادية، وحينما عُرض الفيلم بعد مجهود كبير من كلينا لم يصادف النجاح الذى كنا نأمله، ونشرت إحدى الصحف وقتذاك مقالا عنوانه «رصاصة فى قلب توفيق الحكيم»
ويضيف عبدالوهاب: لقد ارتبطت بصداقة الحكيم عشر سنوات، تعلمت خلالها منه الحكمة وفلسفة الأمور، كما كان الحكيم شاهدًا هو وأحمد شوقى على عقد زواجى الأول من السيدة زبيدة الحكيم 1931 ميلادية، وكان زواجًا سريًّا، وهى من رغبت فى ذلك، إذ كان لديها سبعة أطفال، ولو تم إشهار الزواج ؛ لاستولت الأوقاف على ما تمتلك خصوصًا أنها أرملة قد ورثت الكثير من زوجها المتوفى الذى كتب ذلك فى وصيته.
وكانت زبيدة الحكيم تكبر عبدالوهاب بنحو عشرين عامًا، إذ كانت قد تخطَّتْ سن الأربعين من عمرها، وتعيش فى قصر بالزمالك، وتمتلك ثروة طائلة من المال قُدِّرت وقتذاك بالملايين، وسافر إلى أوروبا كثيرًا على نفقتها، وأغدقت عليه الهدايا الثمينة، وعلى الرغم من أن كثيرًا من الرجال من علية القوم قد تقدموا للاقتران بها فإنها رفضتهم جميعًا؛ لأن حبها لعبدالوهاب كان قد تمكَّن منها، وكان وقتذاك قد صار شهيرًا وتتمناه أى امرأة فى مصر. وقد تزوجها وهو الذى كان يعلن فى الصحافة أنه لن يتزوج أبدا، ثم بعد زواجه قال مقولته الشهيرة: «الزواج قدر لا نستطيع صده ولا رده». فقد كان يقول: «لن أتزوج ولو شنقونى، ذلك لأننى أعتقد أن الزواج يقضى على الفنان الذى يريد أن يحس وأن يحلم وأن يحلق كل ساعة فى سماء الخيال. الزواج رابطة مُملَّة مهما كانت الزوجة ومهما حسنت نية الزوج.. وأرونى زوجين عمرت فى بيتهما الأحلام بعد سنة واحدة من الزواج».
ويقول محمد عبدالوهاب عن زبيدة الحكيم التى كان الحكيم شاهدًا مع شوقى على زواجه منها: «أحبَّتنى حبًّا قويًّا كان جديدا علىّ، كان يختلف عن كل حب آخر.. كانت أرملة رجل واسع الثراء، وكانت سيدة عاقلة جدًّا، لم تبدِّد ثروتها، وإنما نمَّتها وضاعفتها، وكانت تقيم فى قصر عظيم، وكانت تدعو إلى قصرها الوزراء وكبار رجال الدولة.. وعرفتُ فى صالونها حسن نشأت باشا الذى كان يحكم مصر فى وقت من الأوقات، وعرفت كل أصحاب النفوذ والسلطان فى تلك الأيام.
وقد رأيتها لأول مرة فى حفلة ساهرة أقامتها فى عوامة تملكها، ورأت إعجاب السيدات بغنائى فقالت: «والله لآخذه منهن».
وأُعجبتْ بى وأعجبتُ بها، بل عشقتها وأحببتها، وحرصنا ألا يعرف أحد بقصة هوانا، فقد خشيت أن يعلم أشقاء زوجها بقصة هذا الحب فينتزعوا أولادها منها، وقد تكتَّمتُ هذا الحب عن أقرب الناس إلىّ.
وأذكر أنها دعت الأستاذين محمد التابعى ومصطفى أمين لتناول العشاء فى قصرها، وحرصت طوال العشاء أن أعاملها أمام الضيوف على أنها سيدة عظيمة، وأننى مطرب مدعو للحفلة كبقية المدعوين مع أننى كنت صاحب البيت!.
وتزوجتها فى أوائل الثلاثينات وبقيت زوجة لى 12 سنة، كانت من أسعد أيام حياتى، على الرغم أنها كانت أكبر منى سنًّا بعدة سنوات.. ولم تعرف هذا السر الخطير إلا سيدة اسمها إيزابيل بيضا أحد أصحاب شركة بيضافون للأسطوانات، فقد عقدنا الزواج فى بيتها فى مصر الجديدة.
وكانت زوجتى الأولى مشهورة بجمال عينيها، لم تكن سيدة جميلة، لكنها كانت امرأة بمعنى الكلمة كلها أنوثة وحيوية وفتنة.. كانت هى المدرسة التى تعلمت فيها فن الحياة، كانت الأستاذة التى علمتنى كيف أقتصد من أرباحى وأكوِّن ثروة، كيف ألبس، كيف أنتقى ألوان ملابسى وأنواع الكرافتات والجوارب والأحذية، كانت خبيرة فى الذوق.. علمتنى الحياة، كانت تسافر كل عام إلى أوروبا وتأخدنى معها إلى مدينة كارلسباد حيث المياه المعدنية الشهيرة.. علمتنى كيف أفتح صالونًا فى بيتى، وكيف أستقبل الناس.
تعلمتُ من شوقى أشياء كثيرة، ولم أكن أستطيع أن أنقل جو شوقى أمير الشعراء إلى بيتى، وجاءت هذه السيدة لتقنعنى أننى أستحق أن أعيش كشوقى، أن أفتح بيتى، أن أعرف أعظم الناس فى بلدى، وجاءت إلى بيتى ونظَّمت لى حياتى، فقد احتفظتُ ببيتى واحتفظتْ بقصرها.. استطاعت هذه السيدة أن تجعلنى أرى فيها كل شىء.. أحببتُ فيها أمى وأختى وحبيبتى وصديقتى».