السبت 21 ديسمبر 2024 الموافق 20 جمادى الثانية 1446

عثمان علام يكتب: نداهة بتروجت

180
المستقبل اليوم

لو خرج كل الموتى الذين عملوا في شركة بتروجت من قبورهم ، لكان أول باب يطرقونه هو باب بتروجت ، 
فقد تركت الشركة فى نفوسهم قيمة ، لا يمحوها الزمن، قيمة عابرة للوجدان ، قيمة أكبر من أي عطية ، قيمة جعلتهم أحياء وأمواتَ يحرصون دومًا على الحضور أمامها حتى لو غابت، لتكسر بتروجت القاعدة التى ظل كثيرون يحاولون ترسيخها على مدار سنوات من أن الحضور الجسدى هو الأساس، لكنه بدا وكأنه محض زيف، لأن الحقيقى والخالص والمعتنى به والأصيل هو الذى يعيش، وهو تلك القيمة التي تعيش فى الوجدان .

أعترف أنني لم اكن أدرك ذلك جيداً ، لكنِ أدركته وقت أن صدر قرار بنقل المهندس محمد الشيمي رئيس بتروجت الأسبق لديوان الوزارة ، فى حركة لم تكن سوى تنكيل بالرجل ، رأيت كيف سيطر الحزن على الشيمي وكأنه لم يحزن بعد ، وتمنى لو اكمل مشواره دون أن يتقاضى مليماً واحداً .

ساعتها أدركت كيف كانت غضبة المهندس محمد عبدالحافظ ، عندما نقله الوزير أسامه كمال من رئاسة بتروجت الى رئاسة صان مصر ، وإذا اخذنا فى الاعتبار حالة حزن محمد الشيمي ، وهو ليس ابن بتروجت ، بل مجرد ضيف حل على الشركة لمدة أربع سنوات ونيف، فما بالنا ب محمد عبدالحافظ وهو بتروجتاوتي حتى النخاع ، يبدو أن الالم كان موجع والحزن كان عميق والجراح غائر ، الفرق أن الشيمي انفعل مع الحدث وتحدث ، بينما محمد عبدالحافظ كتم غيظه وغضبه فى نفسه .

 

قيمة بتروجت الحقيقية فى أذهان ووجدان كل من عمل بها لا يمكن رسم تحليل لها ، ولا يمكن ادراكها ولا يمكن تفسيرها ، ليس فقط لدى كبار القيادات ، بل حتى صغارهم سناً ومنصباً ، ترون كم الفخر الدي يشعر به العمال عندما تدشن الشركة مشروعاً او تنزل برجاً او تنقل معدة ، حتماً هو شعور لا يمكن ان تجده عند غيرهم من موظفي الشركات التي تساهم فيها بتروجت ويتقاضون رواتب اضعاف ما يتقاضونه عمال بتروجت .


ترون كيف أن المهندس صلاح إسماعيل الذي لم تكن له علاقة ببتروجت سوى عام واحد الذي ترأسها فيه ، باتت هي كل ذكرياته ، باتت هي كل تاريخه ، صلاح اسماعيل الذي عمل في  أكبر شركة إنتاج لسنوات "جابكو " ثم ساهم فى تأسيس صان مصر ، توقفت ذاكرته عند عام قضاه فى بتروجت .

كل ذلك جعلني أتذكر كيف كانت غضبة المهندس كمال مصطفى ، وهو الرئيس الاطول فى عمر بتروجت ، عندما نقله المهندس سامح فهمي ، في نهاية تسعينيات القرن الماضي ، الى شركة إنبي ، كان من المفترض ان يفرح كما يفرح قيادات اليوم ، فقد نُقل لشركة هادئة اكثر راحة من بتروجت ، لكنه ظل مصعوقاً حتى بعد ترك إنبي وسوميد ، والى الآن لا اعتقد أن هذه الغُصة مُحيت من ذاكرة المهندس كمال مصطفى .


كل ما عدا بتروجت لا محل له من الإعراب ، الذكريات والتاريخ والمجد ، يتوقف على محطة هذه الشركة ، الذي تربى فى بتروجت وخرج منها ، والذي عمل فيها ولو عام ، كلهم يحكون عن بتروجت .


ولسنوات طويلة ، عاصرت المهندسون: هاني ضاحي وعبدالوهاب السماحي ومحمد الجوهري ومحمد عبدالحافظ وعبدالمجيد الرشيدي والسيد البدوي وتاج محرم وأشرف بهاء ، وغيرهم العشرات ، جميعهم تولى شركتين وثلاثة بل وأربعة، ومنهم من أصبح وزيراً ومحافظاً ومنهم من أسس شركات ، لكنهم دائماً وابدا يحكون عن بتروجت ، ذاكرتهم مع بتروجت لا تنافسها ذاكرة ، بتروجت هي محطتهم الأولى والأخيرة مهما تعددت المحطات بعدها .


رافقت أيضاً مهندسون وفنيون ومحاسبون واداريون ، خرجوا من بتروجت وتقلدوا مناصب فى شركات أخرى ، لا يحكون أيضاً إلا عن بتروجت ، هم يعرفون أنفسهم فى المحافل وبين العامة والخاصة بالعلامة التجارية ذائعة الصيت "بتروجت"، وجدانهم لا يتسع لشيء أخر ، وكيف يتسع ، وعندما تذكر بتروجت ترتجف أبدانهم .

حتماً هذا شعور المهندسون: وليد لطفي رئيس الشركة الحالي ، وأشرف بهاء و خالد إبراهيم وعمرو بدوي ومعتز خليل ومحسن قطب وجابر السيد ومحمد شكري ومحمد الدروي وياسر محجوب ، وأحمد صلاح وعمرو الحسيني ومحمد عبدالرحيم ، والعشرات من قيادات بتروجت ، القدامى والمحدثين، صغاراً كانوا او كبارا .وهكذا سيدات بتروجت منذ تأسست الشركة وحتى الآن ،.

سألت كثيرون عن تفسير هذا الارتباط وهذا الحب وهذا التعلق وهذه الايدلوجية التي تخلقها بتروجت ، الجميع لم يسوقوا تفسيراً مختلف ، كل تفسيراتهم واحدة وهي : نداهة بتروجت التي تمسك بالجميع وتوقفهم عندها ، فلا حياة إلا ما كانت ، ولا ذكريات إلا عبر عبق بتروجت ، عرقها وجهدها وكفاحها وترابها المتناثر على ملابسهم ، خلق حالة ممتدة عبر الزمن ، لا تموت حتى لو رحلت الأبدان .


وإذا افترضنا أن الكبار رأوا بتروجت طفلاً صغيراً ولد بين ايديهم وبعرقهم وبكفاحهم، وعاشوا معه وهو يكبر ويكبر حد العملقة ، فزاد تعلقهم به دون النظر الى ما يحصلون عليه ، فماذا عن الصغار الذين رأوها عملاقة ، لا تفسير !

هنا يغيب العقل ويفشل المنطق ، وتختفي النظريات ، ثم نعود إلى تفسير العرب القدامى ، إنها النداهة يا صديقي ، إنه المعنى الذي يعجز الجميع عن تفسيره مهما بلغ من العلم والمعرفة .

#عثمان_علام #حكاوي_علام




تم نسخ الرابط