الخميس 10 أبريل 2025 الموافق 12 شوال 1446

لا يمكن أن تكون بطلاً لقصتك دون أمك

719
رحم الله أمي
رحم الله أمي

ذاكرتي لا تتسع لأكثر من 40 سنة مضت ، قبل ذلك لا أتذكر شيئ ، ليس لدي حتى صورتذكرني بالتاريخ الذي سبق الأربعون ، حتى ما كُنت أدونه في كشكولي وأنا غض لم يعدموجوداً ، حتى ما أتذكره الآن وأود أن أحكيه كنت أكرهه وامقته ، لقد كان مرتبطبذكريات ربما لا تروق لأي طفل يعيش على هذا الكوكب .


 

لكنِ مع مرور الوقت وتقدمي فى العمر أُريد أن أحكي ، أُريد أن أبكي ، أريد أن أتذكر ،أريد أن أعود ، وددت لو عاد بي الزمن ممتطياً البراق ، لأُشاهد وجوهاً كنت أراها ، وأرىأشخاص كنت أود أن لا أفارقهم على الدوام ، وأولهم وجه أمي ، كنت أود لو كانت علىقيد الحياة فأحضنها وأسكن إليها حتى أتخلص من همومي وأخطائي وموبيقاتي .


 

مع كل معاناة في حياتي أكتشف أن الأم هي كل شيئ ، بل هي الحياة لأي إنسان ، تولدفلا تراها لكنك تشتم رائحتها ، تعبث أطرافك الصغيرة بجسدها ، تستشعر ملمسجلدها دون غيرها ، تشتم رائحتها فتكون بوصلتلك للحياة ، بعد أشهر معدودة تفتحعينيك على أمك ، هي الظل والكيان والحقيقة التي تلازمك طيلة الوقت ، صغيراً كنت أوكبيراً ، وحتى بعد أن ماتت أمي ، ظلت ملازمةً لي وستظل ما حييت .


 

كُنت أود أن أحكي شيء مختلف عن أمي ، كنت أود لو شكيت وبكيت بين ذراعيها ، لكنلازلت أتذكر أمي وهي تُمسك بي كي تنظفني وتهندمني ، مشهد لا يُنسى .


 

كان يوم الجمعة "وهو يوم الإجازة الأسبوعية من المدرسة"، يوماً قاسٍ ، على الأقللطفلي مثلي لم يكن يملك من الرفاهية ما يجعله يفرح بهذا اليوم ، فلا ذهاب للتنزه ولاشيئ في هذا الجو يدفعك للفرح ، كانت المتعة الوحيدة فى الذهاب للمدرسة واللعبمن الزملاء وملاقاتهم ، الأقران مهما كانوا سيئين أحياناً لا يكون لك ملاذ غيرهم .


 

كانت أمي تمسك بي حتى تحولني لطفل براق ، أنا الإبن الوحيد في هذا الوقت ، ربماكنت "الحيلة" لها ولجدتي رحمهما الله ، الولد الذي سيحرر القدس ، سيبني حائط عكاالذي هدمه الصليبيون ، سيعيد ملك فارس وعرش كسرى ، كنت بالنسبة لهم كل شيئ ،بنتان و ولد ، والولد فى الصعيد هو أغلى ما يملكه البشر ، هكذا كانوا وربما لايزالون ،عادات وتقاليد لم تتغير ، ولو تغير شيئ ما رأينا قضايا الثأر تتوارثها الأجيال ، جيلاً تلوجيل .


 

المهم أنني كنت أهرب ، كانت تمسك بي أمي ، ما أن أرى الماء المغلي إلا ويتعالىصراخي ، لا أريد الاستحمام ، كنت أكرهه ، لست كأولادي الآن هم يستحمون مرة أومرتين فى اليوم ، يبدو أن أجسادهم ستصبح نحيفة يوماً ما من كثرة الأستحمام .


 

ورحم الله جدتي "معزوزه"، كانت تقف لهم جميعاً بالمرصاد ، تحتضنني وتمسك بي ،كانت هي الملاذ من كل قسوة ، الملجأ من كل العذابات ، لكنها كانت ترضى بأن تضربنيأمي حتى استحم ، ما عدا ذلك كانت جدتي هي ملك الغابة الذي يستأسد على أي أحدينالني ولو بكلمة .


 

مع مرور الأيام أعتدت ذلك من أمي ، ارتضيت أن تصطحبني وتحميني ، حتى بعد أنكبرت ، وصل عمري ل 16 سنة ، كانت أمي هي التي "تحميني"، وحتى بعد ذلك ، وبعدأن بات الخجل يعتريني ، كانت أمي هي من يليف ظهري ، وتمتد يدها فتنظف كلجسدي بالليفة المخلوعة من النخل ، ليفة النخل كانت هي الوسيلة لتنظيف الجسد ،كنا نختار أنعمها ومع كثرة الأستحمام كانت تنعم أكثر وأكثر .


 

سرعان ما ابتعدت عن أمي ، بعد 18 سنة أنتقلت للعيش فى القاهرة ، بدأت اعتمد علىنفسي ، فمن مثل أمي "يدعك" جسدي وينظفه ، لا أحد ، كل الحجب تنكشف مع الأم ،هي تقلب في جسدك تتفقده ، من الممكن أن ترى كدمة لم تراها ، ترى تغيراً فى ظهركأو بطنك ، فتعالجك وتعتني بك ، غيرها كل الستائر تسدل ، لا ترتضي أن يرى جسدكأحد حتى لو كان ولدك أو بنتك ، عظمة الأم وتفانيها لا يضاهيه شيئ ، لا أحد يحبك مثلأمك ، لا أحد يعتني بك مثل أمك ، لا أحد يتحمل كل معاناتك وسخافاتك بسعادة ورضاسوى أمك ، طيلة الوقت تتحمل همومك .


 

قبل وفاة أمي بساعات ، كانت لاتزال تنطق ، دخلت عليها وبجوارها شقيقاتي البنات ،وفي ظل معاناتها وألمها وساعاتها المعدودة قالت لهن: هل أعددتم الفطار لأخوكم  !ياالله ما لكِ يا أمي ومال الجوعى ، حتى وأنتِ تفارقين تعتني بي !


 

كنت أود أن أحكي عن طفولتي مجرداً ، أجعل نفسي البطل الحقيقي لنفسي ولقصتيولحياتي ولمعاناتي وأفراحي وصولاتي وجولاتي ، لكن وجدت أمي هي البطل في كلشيئ ، الحديث لا يحلو بدونها ، الرواية لا تكتمل إلا ببطولتها ، لا شىء ممكن أن تحكيه إلابذكرها ، إذا تحدثت عن هفواتك فستجد أمك هي البطل الذي يغفر ، وإذا تحدثت عننجاحاتك فستجد أمك هي البطل الذي قادك لذلك ، وإذا تحدثت عن آلامك تجد أمكهي من كانت وحدها التي تتألم ، وإذا تحدثت عن أفراحك تجد أمك هي أولالمبتسمين لفرحك ، وإذا تحدثت عن سقطاتك تجد أمك هي أول من يسامح ، لا أحدبعدها يسامح ويغفر ويتجاوز .


 

لو سألتموتي عن الفقد ، فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن الفراق فسأقول لكمأمي ، وإذا سألتموني عن الشىء المبهج في حياتي فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتمونيعن الحاجة التي أريدها فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن شىء قصرت فيه وأندمعليه فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن حلمك الذي وددت لو تحقق فسأقول لكمأن أدفن بجوار أمي .


 

ورغم حب أبنائي لي وشغفهم بي ، فلست بالأب المتسلط القاسي ، لكن حبهم لأمهمأشد ، أمهم هي الكلمة الأولى التي يتفوهون بها عندما يستيقظون من النوم وعندماينامون وعند عودتهم من الخارج وعند خروجهم ، وعند نجاحهم ، وعند فرحهم وعندمرضهم ، وعند معاناتهم ، هي بالنسبة لهم كل شىء ، حتى فى الخناقات ، يشكلون خطدفاع عن أمهم ، ربما هذا ما أعاد ذاكرتي للخلف وجعلني أتذكر أياماً عشتها في حضنيأمي وكنف أمي وبصوت أمي وإلى جانب أمي ، وبعيداً عن أمي .


 

أنا لم أعد القي باللوم كالسابق على كبار السن الذين تخطت أعمارهم السبعون أوالثمانين وهم يتذكرون أمهاتهم وهم يحنون إليهم وهم يعودون بذاكرتهم كما لو كانواصغاراً في عمر الطفولة ، لم أعد ألوم الصغار ولا العجائز وهم ينظرون إلى صور أمهاتمأحياءً وأمواتا ، لم أعد ألوم أحد عندما يصرخ بأعلى صوته متذكراً موقف ما "الله يرحمكيا أمي"، كل هؤلاء ثقلى ، فالبعد عن الأم ولو ليوم واحد يجعلك تتذكرها ، المواقف بكلأنواعها تجعلك تستدعي أمك ، إن لم تكن بحاجة لها جسداً وروحاً فأنت بحاجة إلىدعائها وابتهالها لله من أجلك .

لقد كان ولا يزال يوم موت أمي أشد قسوةً على نفسي من كل شيئ ، كل المواقف كلالصعاب كل المذلات كل النكبات ، جميعها لم تعادل لحظة حمل أمي إلى مرقدهارحمك الله يا أمي وغسل الله جسدك ويدك بالثلج والبرد كما كنتِ تغسلين جسديبالماء والحنية وأنا صغير .

 

#حكاوي_علام #عثمان_علام

ثلاث سنوات مضت على موت أمي ، وسواءً قيمت نفسك في حياة امك او بعد امك ما تفارق وتروح لرب كريم ، هتفضل امك هي بطل حكايتك ، لانه لا يمكن تكون ليك حكاية الا وامك هي البطل ….الف رحمة ونور عليكي يا امي .

شاهد حلقة الأم ..حكاوي علام




تم نسخ الرابط