لا يمكن أن تكون بطلاً لقصتك دون أمك

ذاكرتي لا تتسع لأكثر من 40 سنة مضت ، قبل ذلك لا أتذكر شيئ ، ليس لدي حتى صورتذكرني بالتاريخ الذي سبق الأربعون ، حتى ما كُنت أدونه في كشكولي وأنا غض لم يعدموجوداً ، حتى ما أتذكره الآن وأود أن أحكيه كنت أكرهه وامقته ، لقد كان مرتبطبذكريات ربما لا تروق لأي طفل يعيش على هذا الكوكب .
لكنِ مع مرور الوقت وتقدمي فى العمر أُريد أن أحكي ، أُريد أن أبكي ، أريد أن أتذكر ،أريد أن أعود ، وددت لو عاد بي الزمن ممتطياً البراق ، لأُشاهد وجوهاً كنت أراها ، وأرىأشخاص كنت أود أن لا أفارقهم على الدوام ، وأولهم وجه أمي ، كنت أود لو كانت علىقيد الحياة فأحضنها وأسكن إليها حتى أتخلص من همومي وأخطائي وموبيقاتي .
مع كل معاناة في حياتي أكتشف أن الأم هي كل شيئ ، بل هي الحياة لأي إنسان ، تولدفلا تراها لكنك تشتم رائحتها ، تعبث أطرافك الصغيرة بجسدها ، تستشعر ملمسجلدها دون غيرها ، تشتم رائحتها فتكون بوصلتلك للحياة ، بعد أشهر معدودة تفتحعينيك على أمك ، هي الظل والكيان والحقيقة التي تلازمك طيلة الوقت ، صغيراً كنت أوكبيراً ، وحتى بعد أن ماتت أمي ، ظلت ملازمةً لي وستظل ما حييت .
كُنت أود أن أحكي شيء مختلف عن أمي ، كنت أود لو شكيت وبكيت بين ذراعيها ، لكنلازلت أتذكر أمي وهي تُمسك بي كي تنظفني وتهندمني ، مشهد لا يُنسى .
كان يوم الجمعة "وهو يوم الإجازة الأسبوعية من المدرسة"، يوماً قاسٍ ، على الأقللطفلي مثلي لم يكن يملك من الرفاهية ما يجعله يفرح بهذا اليوم ، فلا ذهاب للتنزه ولاشيئ في هذا الجو يدفعك للفرح ، كانت المتعة الوحيدة فى الذهاب للمدرسة واللعبمن الزملاء وملاقاتهم ، الأقران مهما كانوا سيئين أحياناً لا يكون لك ملاذ غيرهم .
كانت أمي تمسك بي حتى تحولني لطفل براق ، أنا الإبن الوحيد في هذا الوقت ، ربماكنت "الحيلة" لها ولجدتي رحمهما الله ، الولد الذي سيحرر القدس ، سيبني حائط عكاالذي هدمه الصليبيون ، سيعيد ملك فارس وعرش كسرى ، كنت بالنسبة لهم كل شيئ ،بنتان و ولد ، والولد فى الصعيد هو أغلى ما يملكه البشر ، هكذا كانوا وربما لايزالون ،عادات وتقاليد لم تتغير ، ولو تغير شيئ ما رأينا قضايا الثأر تتوارثها الأجيال ، جيلاً تلوجيل .
المهم أنني كنت أهرب ، كانت تمسك بي أمي ، ما أن أرى الماء المغلي إلا ويتعالىصراخي ، لا أريد الاستحمام ، كنت أكرهه ، لست كأولادي الآن هم يستحمون مرة أومرتين فى اليوم ، يبدو أن أجسادهم ستصبح نحيفة يوماً ما من كثرة الأستحمام .
ورحم الله جدتي "معزوزه"، كانت تقف لهم جميعاً بالمرصاد ، تحتضنني وتمسك بي ،كانت هي الملاذ من كل قسوة ، الملجأ من كل العذابات ، لكنها كانت ترضى بأن تضربنيأمي حتى استحم ، ما عدا ذلك كانت جدتي هي ملك الغابة الذي يستأسد على أي أحدينالني ولو بكلمة .
مع مرور الأيام أعتدت ذلك من أمي ، ارتضيت أن تصطحبني وتحميني ، حتى بعد أنكبرت ، وصل عمري ل 16 سنة ، كانت أمي هي التي "تحميني"، وحتى بعد ذلك ، وبعدأن بات الخجل يعتريني ، كانت أمي هي من يليف ظهري ، وتمتد يدها فتنظف كلجسدي بالليفة المخلوعة من النخل ، ليفة النخل كانت هي الوسيلة لتنظيف الجسد ،كنا نختار أنعمها ومع كثرة الأستحمام كانت تنعم أكثر وأكثر .
سرعان ما ابتعدت عن أمي ، بعد 18 سنة أنتقلت للعيش فى القاهرة ، بدأت اعتمد علىنفسي ، فمن مثل أمي "يدعك" جسدي وينظفه ، لا أحد ، كل الحجب تنكشف مع الأم ،هي تقلب في جسدك تتفقده ، من الممكن أن ترى كدمة لم تراها ، ترى تغيراً فى ظهركأو بطنك ، فتعالجك وتعتني بك ، غيرها كل الستائر تسدل ، لا ترتضي أن يرى جسدكأحد حتى لو كان ولدك أو بنتك ، عظمة الأم وتفانيها لا يضاهيه شيئ ، لا أحد يحبك مثلأمك ، لا أحد يعتني بك مثل أمك ، لا أحد يتحمل كل معاناتك وسخافاتك بسعادة ورضاسوى أمك ، طيلة الوقت تتحمل همومك .
قبل وفاة أمي بساعات ، كانت لاتزال تنطق ، دخلت عليها وبجوارها شقيقاتي البنات ،وفي ظل معاناتها وألمها وساعاتها المعدودة قالت لهن: هل أعددتم الفطار لأخوكم !ياالله ما لكِ يا أمي ومال الجوعى ، حتى وأنتِ تفارقين تعتني بي !
كنت أود أن أحكي عن طفولتي مجرداً ، أجعل نفسي البطل الحقيقي لنفسي ولقصتيولحياتي ولمعاناتي وأفراحي وصولاتي وجولاتي ، لكن وجدت أمي هي البطل في كلشيئ ، الحديث لا يحلو بدونها ، الرواية لا تكتمل إلا ببطولتها ، لا شىء ممكن أن تحكيه إلابذكرها ، إذا تحدثت عن هفواتك فستجد أمك هي البطل الذي يغفر ، وإذا تحدثت عننجاحاتك فستجد أمك هي البطل الذي قادك لذلك ، وإذا تحدثت عن آلامك تجد أمكهي من كانت وحدها التي تتألم ، وإذا تحدثت عن أفراحك تجد أمك هي أولالمبتسمين لفرحك ، وإذا تحدثت عن سقطاتك تجد أمك هي أول من يسامح ، لا أحدبعدها يسامح ويغفر ويتجاوز .
لو سألتموتي عن الفقد ، فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن الفراق فسأقول لكمأمي ، وإذا سألتموني عن الشىء المبهج في حياتي فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتمونيعن الحاجة التي أريدها فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن شىء قصرت فيه وأندمعليه فسأقول لكم أمي ، وإذا سألتموني عن حلمك الذي وددت لو تحقق فسأقول لكمأن أدفن بجوار أمي .
ورغم حب أبنائي لي وشغفهم بي ، فلست بالأب المتسلط القاسي ، لكن حبهم لأمهمأشد ، أمهم هي الكلمة الأولى التي يتفوهون بها عندما يستيقظون من النوم وعندماينامون وعند عودتهم من الخارج وعند خروجهم ، وعند نجاحهم ، وعند فرحهم وعندمرضهم ، وعند معاناتهم ، هي بالنسبة لهم كل شىء ، حتى فى الخناقات ، يشكلون خطدفاع عن أمهم ، ربما هذا ما أعاد ذاكرتي للخلف وجعلني أتذكر أياماً عشتها في حضنيأمي وكنف أمي وبصوت أمي وإلى جانب أمي ، وبعيداً عن أمي .
أنا لم أعد القي باللوم كالسابق على كبار السن الذين تخطت أعمارهم السبعون أوالثمانين وهم يتذكرون أمهاتهم وهم يحنون إليهم وهم يعودون بذاكرتهم كما لو كانواصغاراً في عمر الطفولة ، لم أعد ألوم الصغار ولا العجائز وهم ينظرون إلى صور أمهاتمأحياءً وأمواتا ، لم أعد ألوم أحد عندما يصرخ بأعلى صوته متذكراً موقف ما "الله يرحمكيا أمي"، كل هؤلاء ثقلى ، فالبعد عن الأم ولو ليوم واحد يجعلك تتذكرها ، المواقف بكلأنواعها تجعلك تستدعي أمك ، إن لم تكن بحاجة لها جسداً وروحاً فأنت بحاجة إلىدعائها وابتهالها لله من أجلك .
لقد كان ولا يزال يوم موت أمي أشد قسوةً على نفسي من كل شيئ ، كل المواقف كلالصعاب كل المذلات كل النكبات ، جميعها لم تعادل لحظة حمل أمي إلى مرقدها … رحمك الله يا أمي وغسل الله جسدك ويدك بالثلج والبرد كما كنتِ تغسلين جسديبالماء والحنية وأنا صغير .
#حكاوي_علام #عثمان_علام
ثلاث سنوات مضت على موت أمي ، وسواءً قيمت نفسك في حياة امك او بعد امك ما تفارق وتروح لرب كريم ، هتفضل امك هي بطل حكايتك ، لانه لا يمكن تكون ليك حكاية الا وامك هي البطل ….الف رحمة ونور عليكي يا امي .
شاهد حلقة الأم ..حكاوي علام