مروه عطيه تكتب: عبد الحميد ابو بكر مهندس عملية تأميم قناة السويس
مروه عطيه تكتب: عبد الحميد ابو بكر مهندس عملية تأميم قناة السويس
في يوم 25 أبريل من عام 1859 بدأت الخطوة الأولي في واحد من أهم المشاريع الاقتصادية والتنموية التي تمت في تاريخ مصر كله، وهو حفر قناة السويس لتربط بين البحرين الأحمر، وما يمثله من مفتاح للتوغل في قارة إفريقيا، التي كان جزء كبير منها لا يزال مجهولا وغامضا، والبحر المتوسط بعالمه الأوربي وثقافته الإغريقية اللاتينية، وتاريخه كممر يربط بين حضارات مصر وشمال إفريقيا القديمة العظيمة، وعالم جنوب أوربا بتراثه الغني وحضاراته وإمبراطورياته التي حكمت العالم فترة طويلة من الزمان !
ولم يكن هذا التاريخ هو البداية الفعلية لأن محاولات ومشاريع مشابهة عديدة سبقته في فترات تاريخية مختلفة، إلا أن ظهور قناة السويس، التي أنتهت عمليات الحفر فيها في 18 أغسطس 1869، مثل بداية لوجود أهمر ممر ملاحي صناعي في التاريخ كله .
مشروع القناة الذي يعد واحد من إنجازات أسرة " محمد علي"، برغم ما دفع مقابله من أثمان غير عادلة وما جره على البلاد من نكبات وما تطلبه من تضحيات عظيمة، تكلل بحفل الافتتاح المبهر الذي جري يوم 17 نوفمبر 1869م، الحفل الذي رعاه وأشرف عليه خديوي وحاكم مصر حينها " إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير"، تكلف مبالغ طائلة وضم نخبة وصفوة الناس من مصر ودول أوربا، مثل فرنسا والنرويج وبروسيا وهولندا وغيرها، كان مناسبة للتباهي والفخر، وهي الصفات التي تمتع بها الخديوي وقادته وقادت مصر معه إلي الخراب فيمات بعد، كانت تلك حفلة مبهرة وخطوة هائلة في سبيل ترسيخ سيطرة واشراف مصر على أهم بحرين في العالم القديم حينها !
غير أنه وفي حقيقة الأمر فإن مصر لم تكن أبدا مسيطرة أو متحكمة في قناة السويس، لأنها لم تكن تملك سوي 15 % فقط من أسهم القناة، أي أقل من الربع، برغم أن القناة موجودة على الأراضي المصرية، وأن مصر قامت بدفع الحصة الأكبر من تكاليف إنشاءها، وفوق كل ذلك فقد خسرت مصر أرواح أكثر من 120 ألف من أبناءها، الذين تم ماتوا أثناء عمليات الحفر بسبب الأوبئة ونقص الغذاء والماء، من إجمالي حوالي مليون عامل مصري تم تسخيرهم لشق وحفر القناة !
كل ذلك لم يشفع ليضمن لمصر السيطرة على ممر ملاحي هو في الواقع ملك لها بقوة الواقع، لكن حتى النسبة الضئيلة التي امتلكتها من أسهم القناة سرعان ما خسرتها، نتيجة سياسات " إسماعيل باشا" المالية، التي أتسمت بالتهور وعدم تقدير العواقب، واسرافه وفتحه الباب للاستدانة والاقتراض من كل الجهات دون ضابط أو رقيب .
مرحلة الخسارة التدريجية لنصيب مصر في قناة السويس انتهت ببيع ما تبقي من حصتها في ربح شركة قناة السويس للبنك العقاري الفرنسي في 17 إبريل عام 1880م .
وبذلك جرت واقعة قل أن وجد مثلها في التاريخ كله، مشروق عملاق على أرض وبسواعد أبناء بلد لا يملك أية حقوق فيه على الإطلاق، هذه النهاية كانت حتمية مع كل الفشل الإداري وسوء التخطيط المالي في الفترة الاخيرة من عصر " الخديوي إسماعيل"، ومع توقيع اتفاقية ( القسطنطينية) في أكتوبر 1888م، فقدت مصر حقها في أرباح القناة وحقها في الإشراف على حركة الملاحة ومرور السفن فيها أيضا، ولم تعد تملك من أمر قناتها شيئا، إلا أن التاريخ يحتفظ طوال الوقت بالمفاجآت، ولا يقول كلمته النهائية أبدا .
فبعد سقوط حكم ( أسرة محمد علي) بإجبار الملك " فاروق الأول" على التنازل عن العرش، بواسطة حركة الضباط الأحرار الذين قادوا ثورة 23 يوليو 1952م، بدا كأن مصر تفتح كافة دفاترها القديمة، وتجد في البحث عن حقوقها المسلوبة والضائعة بإصرار وعناد .
وفي يوم 26 يوليو من عام 1956م وفي الإسكندرية أعلن الرئيس الراحل " جمال عبد الناصر" قرار تأميم قناة السويس وإعادتها إلي الأمة المصرية بكافة صلاحياتها الإدارية والمالية، هذا القرار الجريء، الذي دفعت مصر في سبيله ثمنا غاليا وتعرضت لعدوان غاشم من ثلاثة قوي استعمارية واستيطانية، كان يقف خلفه فريق من الرجال الوطنيين والمخلصين من بينهم المهندس المصري " عبد الحميد أبو بكر"، الذي ولد عام 1923م بالقاهرة، وتخرج في كلية الهندسة جامعة فؤاد الأول ( القاهرة لاحقا) عام 1948م في قسم ( الهندسة الميكانيكية)، وفي نفس العام بدأ " عبد الحميد أبو بكر" خدمته في القوات المسلحة المصرية، وفي نفس الوقت بدأ نشاطه الوطني واهتمامه بقضايا بلاده، الذي أنتهي به كأحد أعضاء المكتب الفني لمجلس قيادة الثورة عام 1952م .
دور " عبد الحميد أبو بكر" الوطني والكبير في قرار تأميم القناة بدأ من حضوره الاجتماع الذي عقده الرئيس " عبد الناصر" يوم 24 يوليو 1956م، أي قبل إعلان القرار بيومين أثنين، في مكتبه وحضره ثلاثة وهم الرئيس نفسه وكلا من " محمد يونس"، رئيس الهيئة العامة للبترول، والمهندس " عبد الحميد أبو بكر"، وأبلغهما بقراره وطلب منهما تكوين فريق مسئول عن تنفيذه، فاختار الأثنين ثالثا لهما وهو المهندس " محمد عزت عادل"، وهم أول من عرف بقرار التأميم ومن تولوا تنفيذ الجزء الأصعب منه، وأثناء تلاوة الرئيس للقرار علنا كان الرجال الثلاثة يدخلون مقر هيئة قناة السويس بالإسماعيلية ويفرضون سيطرتهم وإشرافهم الكامل على القناة، وهي المهمة التي تم إنجازها خلال ربع ساعة لا أكثر ... والحفاظ على استمرار العمل بالقناة بعد انسحاب المرشدين الاجانب من العمل... لإثبات أن مصر غير قادرة على إدارة القناة بمفردها
استمر المهندس " أبو بكر" في أداء عمله الوطني والمهني بكل إخلاص، فبقي يؤدي عمله في قناة السويس بين عامي 1956 حتى عام 1964م، حيث ساهم في تطوير العمل بها وإنشاء مجموعة من الشركات التابعة لها وإنشاء الترسانة البحرية وغيرها .
ثم أنتقل للعمل رئيسا لشركة مصر للبترول عام 1964، بعد أن عهدت إليه قيادة عملية تأميم شركة «شل» و«شل للكيماويات»، وإدماجها مع 17 شركة بترول ونقل، واصبح اسمها «شركة مصر للبترول».، وتولي رئاسة عدة شركات ومؤسسات قومية، وساهم عام 1983 في تنفيذ مشروع توصيل الغاز الطبيعي إلي البيوت في مصر من خلال رئاسته لشركة مشروعات الغاز الطبيعي .
حصل " عبد الحميد أبو بكر" على التقدير والتكريم اللذين يستحقهما ومنحته بلاده الكثير من النياشين والأوسمة والجوائز القومية، كما تم إطلاق اسمه على أحد حقول الغاز الطبيعي في ( أبو ماضي ) بشمال الدلتا .
توفي المهندس " عبد الحميد أبو بكر" عام 2006م عن ثلاثة وثمانين عاما تاركا وراءه سيرة مشرفة وتاريخ عملي ومهني ووطني يدعوا للفخر والإعجاب .