فيروز.. صوت الحنين وزمن يودع زمن..في وداع ابنها

كأن لبنان كلّه حبس أنفاسه، وهو يترقّب ظهور السيدة فيروز، قيثارة الغناء العربي، التي أتمّت تسعين عاماً، وهي تشيع فلذة كبدها، الموسيقار زياد الرحباني، إلى مثواه الأخير. كان المشهد في كنيسة “رقاد السيدة” بالمحيدثة في بيروت أكثر من مجرد عزاء؛ كان لقاءً بين زمنين: زمن فيروز التي صدحت للعمر كلّه، وزمن الحزن الذي جاء يطرق بابها بصمت موجع.
وصلت السيدة الكبيرة متكئة على وجعها، محاطة بحراسة الجيش اللبناني، تتقدمها شقيقتها هدى وابنتها ريما، كرمز لعائلة فنية ووطنية صنعت مجداً لا يُمحى. وما إن أطلت على الحضور، حتى ارتفعت أيادي الجماهير بالتصفيق، في لحظة نادرة كسرت صرامة طقوس العزاء. تصفيق لم يكن خروجاً على المألوف بقدر ما كان ترجمة لعاطفة جياشة تجاه صوتٍ رافق أحلامهم وذاكرتهم، وملأ حياتهم بالحب والأمل.
فيروز، تلك السيدة التي حملت لبنان على كتفيها في أصعب أيامه، وجعلت من صوتها سفيراً لوطنها الجريح في العواصم، كانت في عزاء ابنها تبدو أكبر من أي لقب، أصدق من أي كلمات. من بيت الرحباني خرجت أغانٍ صارت وجدان الأمة، من “بحبك يا لبنان” إلى “سهر الليالي”، وصار اسمها قريناً للتاريخ، كما كانت أم كلثوم لمصر، أيقونة لا يبهت نورها مهما تعاقبت الأيام.
في وداع زياد، بدا أن الزمن عاد إلى الوراء، ليذكّرنا بتلك الأيام التي كان فيها الفن نبضاً للحياة، والناس أكثر صفاءً وحباً. مشهد فيروز وهي تودّع ابنها حرّك في القلوب حنيناً جارفاً لزمنٍ لا يعود، لكنه يظل حياً ما دام صوتها باقياً، وما دام صدى ألحانها يملأ الأمكنة.
تحية تقدير ووفاء للسيدة فيروز، التي كانت ولا تزال الصوت الذي يجمع العرب على المحبة والجمال، وخالص العزاء للشعب اللبناني، الذي ودّع الموسيقار زياد الرحباني، وبقي قلبه معلّقاً بصوت أمه، رمز الحنين الذي لا يشيخ ولا يرحل.
المستقبل البترولي