الجمعة 28 نوفمبر 2025 الموافق 07 جمادى الثانية 1447

يس محمد وحكايات مايلز كوبلاند

384
المستقبل اليوم

يبرز الأستاذ محمد حسنين هيكل في مذكراته دور مؤلف كتاب «لعبة الأمم» مايلز كوبلاند، الذي صدر عام 1969. وقد أحدث صدور هذا الكتاب ردود فعل واسعة في العالم العربي؛ حيث كان المؤلف أحد موظفي ما يسمى آنذاك بـ«مخابرات شركات البترول»، وحاول مرارًا التعامل مع الرئيس جمال عبد الناصر منذ عام 1953 وحتى 1968، مدّعيًا قدرته على جلب استثمارات كبيرة من دول بترولية غنية، إلا أن عبد الناصر لم يمنحه الفرصة، واعتبره من المسترزقين بعد أن تم الاستغناء عنه مع قدوم روزفلت لحكم الولايات المتحدة.

ويبدو أن التاريخ يعيد شخصية مايلز كوبلاند بأشكال وأنماط جديدة تدخل في حياتنا، وتحاول فرض أمر واقع في سياسات عالمية معقدة. وإذا كانت سياسة إنتاج الغاز واستيراده في مصر واحدة من أهم القضايا الاستراتيجية المطروحة على الساحة، فعلينا أن ندرك تمامًا أن فترة تولي المهندس يس محمد مهامه كرئيس لقطاع الغاز في البلاد جاءت في ظروف حالكة؛ كانت الدولة خلالها تعاني من أزمة اقتصادية حادة، تبعتها فترة انتقالية بين وزيرين اختلفت طريقة الإدارة بينهما، ثم الدخول في مرحلة دبلوماسية مرهقة لإعادة العلاقات مع الجهات الأجنبية بعد فترة ليست بالقصيرة من الريبة وعدم الثقة.

لم يحظَ أي رئيس لـ«إيجاس» منذ أكثر من عشر سنوات أو يزيد، بما حظي به يس محمد من مشاكل عاتية ومواقف دقيقة. فقد جاءت فترة الدكتور مجدي جلال وفيها رخاء من الإنتاج عمل كحاجز منيع بينه وبين كثير من المشاكل، وجاء المهندس محمود عبد الحميد لاحقًا بعد أن استقرت السياسات والأوضاع نسبياً وإلى حد كبير، لكنه الآن يكافح لزيادة الإنتاج.

أما يس محمد فقد واجه أخطر فترة انتقالية مر بها قطاع البترول في تاريخه؛ فترة كانت مليئة بمشاكل اقتصادية وسياسية قادرة على الإطاحة بأي قيادة في أسابيع قليلة. ومن لا يدرك حجم هذه المشاكل وتداعياتها الوطنية عليه أن يراجع الملفات جيدًا ليدرك أن تشابكات الاقتصاد والسياسة قد تحالفت في أيام هذا الرجل بشكل يصعب تصوره ولا يتعامل معه إلا من كان ذا بصيرة ودراية وخبرة عميقة.

ولا ينبغي كذلك إغفال ظهور الشخصيات الغامضة التي تعيش على مثل هذه النوعيات من الأزمات، وتقدم نفسها للقيادات باعتبارها قادرة على إسداء النصح والمشورة، وهم للأسف من «خفافيش الظلام» التي تأكل على كل الموائد، وخلال تلك الأحداث المتلاحقة لا بد أن تظهر مثل هذه الشخصيات من نمط مايلز كوبلاند، التي يكررها التاريخ في كل فصوله، قد تفوز هذه الشخصيات بجولة أو اثنتين، لكنها لا تنتصر أبدًا في معركة النهاية، ربما هذا ما واجهه يس محمد مع شخصيات تخلص منها الوزير .

يبقى رجال الوطن الذين ضحّوا بأعمارهم وصحتهم وجهدهم هم الباقون في سجلات الشرف والوطنية، حتى لو انزوى فريق منهم جانبًا ، سيذكر التاريخ – ولو بعد حين – تفاصيل ما قدمه المهندس يس محمد في فترته العصيبة، وستدرسها الأجيال القادمة لتعرف كيف تتعامل مع «شخصيات الأمر الواقع» التي تفرض نفسها على الأحداث، وستدرك حينها أن يس محمد كان يؤدي مهمة وطنية، لا مجرد وظيفة، وربما يخرج هذا الموضوع كشاهد حال حين تتغير الأيام وتتبدل الأحوال.

تحية لهذا الرجل الذي واجه مشاكل كموج البحر، واستطاع أن يعطي للمنصب أبعاده الدبلوماسية والاقتصادية باقتدار، وغادر بعد أن أدى واجبه بكل ما يملك، واثقًا في وطنيته وما قدّمه لبلاده لتظل آمنة مستقرة، وسيسجل التاريخ كل ما قام به وكل ما تعرض له، وعندها فقط سيُعرف دور كل شخصية، ويأخذ كل ذي حق حقه.

المستقبل البترولي




تم نسخ الرابط