الثلاثاء 07 أكتوبر 2025 الموافق 15 ربيع الثاني 1447

مروه عطيه تكتب... عن الورقة التى أثقلت القلب ورفعت الرأس

175
المستقبل اليوم

لم تكن تلك الورقة التي خرجت من وزارة الحربية مجرد ورقةٍ رسميةٍ ممهورةٍ بخاتم الدولة، بل كانت قدرًا مكتوبًا بحروفٍ من دمٍ وشرفٍ وفقدٍ لا يُنسى.
ورقة صغيرة… لكنها كانت تُعلن للعالم كله أن هذا الابن لم يمت، بل صعد إلى مرتبةٍ لا يبلغها إلا من باع الحياة رخيصًا في سبيل الوطن.

في صباحٍ باردٍ من شتاء ما بعد النصر، كان الأب يقف أمام ساعي البريد، يمدّ يده المرتجفة ليستلم المظروف الذي يحمل شعار “جمهورية مصر العربية”.
عرف قبل أن يفتحه أن الخبر داخله، كأنه يسمع نداء ابنه من بعيدٍ يقول له:
يا أبي، لا تبكِ، لقد انتصرتُ مع إخوتي هناك… على الضفة الأخرى من القناة.

جلست الأم في ركنها الصغير، تضم المظروف إلى صدرها، كأنها تضم قلبها.
فتحت الورقة ببطء، وعيناها تمتلئان بالدموع وهي تقرأ تلك الكلمات الجليلة:
“إن الشهيد كان مثالًا للشجاعة والبسالة في ميدان القتال.”
ارتجفت شفتاها، لكنها لم تَبكِ كما ظن الجميع، بل رفعت رأسها إلى السماء وهمست بصوتٍ مبحوح:
الحمد لله… لقد صار ابني شهيدًا.

لم تكن الدموع يومها دموع حزنٍ خالص، بل كانت مزيجًا من وجعٍ وفخرٍ لا يوصف.
كان الألم يسكن القلب، لكن العزة كانت تعلو فوقه، تذكّرهم أن الابن الذي غاب لم يغب سُدى، بل ترك اسمه محفورًا في سجل المجد.
صار للبيت معنى جديد، وللحياة لون آخر… فكل نظرة إلى تلك الورقة كانت تُعيد إليهم نَفَسَ النصر، وتُذكرهم بأن مصر لا تُبنى إلا على أكتاف أبنائها الأبطال.
كانت الورقة شهادة وفاةٍ في ظاهرها، لكنها في حقيقتها شهادة ميلادٍ لوطنٍ عظيم.
ورقة واحدة صنعت ألف قصة فخرٍ، وألف دمعةٍ صامتةٍ قالت دون كلام:
نم قرير العين يا ولدي… فقد رفعتَ رأسنا ورأس مصر عاليا.
لم تنتهِ الحكاية عند تلك الورقة، بل بدأت منها فصول جديدة من الصبر والعزيمة.
الأم التي كانت تنتظر عودة ابنها كل مساء، صارت تزور صورته كل فجر، تحدّثه كأنه ما زال يسمعها، وتروي له أخبار الوطن الذي ضحّى من أجله.
كانت تقول له: لقد كبرت مصر يا بني، بدمك ودم إخوتك، فالنيل يجري اليوم أكثر كبرياءً، والسماء أكثر صفاءً، لأنكم أنقياء كالندى.

أما الأب، فكان كلما مرّ أمام الورقة المعلقة على الجدار، يقف لها كما يُقف لجنديٍّ يؤدي التحية.
لا يلمسها إلا بخشوع، ولا يرفع عينه عنها إلا وهو يهمس: رحلتَ صغيرًا يا ولدي، لكنك تركتَني عظيمًا بك.
كان يدرك في صمته أن ما خسره أبٌ، كسبته أمة.
وفي كل بيتٍ مصريٍّ بعد حرب أكتوبر، كانت هناك ورقة شبيهة، تتحدث بلسان من رحلوا، وتروي قصص من لم يعودوا.
كل ورقة كانت صفحةً من ملحمةٍ كبرى، كتبها الشهداء بدمائهم الطاهرة، لتُخلّد أن مصر لا تنكسر، وأن أبناءها إذا نادتها الأرض… لبّوا النداء بلا تردد.
مرت الأعوام، وبقيت تلك الأوراق شاهدةً على زمنٍ لا يُنسى، زمنٍ امتزج فيه الفقد بالعزة، والدمعة بالانتصار.
كل بيتٍ احتضن شهيدًا صار جزءًا من ذاكرة الوطن، وكل أمٍّ رفعت رأسها رغم الوجع صارت رمزًا للأرض نفسها… تلك التي تنبت من الحزن بطولة، ومن الفقد خلودًا.
وهكذا، لم تكن الورقة مجرد خبرٍ رسميٍّ عن رحيل جندي، بل كانت وثيقةَ حبٍّ أبدية بين الوطن وأبنائه.
إنها الورقة التي أثقلت القلب، نعم… لكنها رفعت الرأس عاليًا إلى السماء، حيث يقيم الشهداء في مقامٍ لا يبلغه إلا من صدق العهد، وكتب تاريخه بالنور والدم.
لقد مرّت السنوات، وتغيّرت الوجوه، لكن تلك الورقة بقيت كما هي، لا يبهت حبرها، ولا يخفت بريقها.
إنها ليست مجرد وثيقة تُعلّق على الجدار، بل أثر من آثار البطولة، وذكرى من زمنٍ كانت فيه الكلمة “شهيد” تاجًا يُوضع على رأس الوطن بأسره.
حين يفتح الأب صندوق الذكريات، وتطلّ الورقة من بين الصور القديمة، يلمح فيها ملامح ابنه كما لو كان حاضرًا، بضحكته، وصوته، وبريق عينيه الذي لم يخمد.
وحين تمسك الأم بها بيديها العجوزتين، ترتجف الأصابع، لكن القلب يثبت… كأن النبض يستعيد شبابه كلما مرّ على اسم الشهيد.
تلك الورقة جعلت من الحزن بطولة، ومن الدمع رايةً، ومن الفقد أناشيد تُروى في الصباحات المشرقة من أكتوبر.
هي الوثيقة التي تجمع بين الموت والحياة، بين النهاية والبداية، بين بيتٍ فقدَ ابنه… ووطنٍ استعاد كرامته.
ولولا تلك الأوراق الصامتة، ما عرفنا معنى أن يكون الوطن أغلى من العمر، ولا أدركنا كيف تخرج من قلب الأم قوة تفوق حدود البشر.
فكل أمٍّ شهيدٍ هي أمٌّ لمصر كلها، وكل أبٍ فقد ابنه في الحرب صار أبًا لآلاف الأبطال الذين أتوا بعده.
وهكذا تبقى الورقة شاهدًا على جيلٍ قدّم عمره كي نحيا، وبصمتها تذكّرنا في كل عامٍ أن النصر لم يكن هدية، بل ثمرة دمٍ غالٍ سال على ترابٍ لا يعرف الانكسار.
يا لَعظمة تلك الورقة!
ورقةٌ خفيفة في اليد… لكنها أثقل من التاريخ كله.
تحمل بين سطورها وصية جيلٍ آمن بأن الأوطان لا تُكتب بالأحبار، بل تُروى بالدماء.




تم نسخ الرابط