حديث الوزير والمباراة الصعبة.. والإفلات من شِباك السوشيال ميديا

كان حديث الوزير كريم بدوي بالأمس مع الإعلامي أسامة كمال مباراة إعلامية صعبة بدت هادئة، ولكنها — للمتخصصين — مليئة بالمناورات والدخول في مناطق بالغة الحساسية، وكل كلمة فيها محسوبة وبشدة على كل طرف. لا تعتقد أبدًا أن الإعلامي الذي يقوم على مثل هذه اللقاءات هو مجرد مقدم برنامج جاء ليشيد بسياسة الوزارة وكأنه إعلان. فمثل تلك الأسماء الرنانة من الإعلاميين تكمن قوتها وشعبيتها في مدى وضع الضيف في زاوية محرجة كلما استطاع ذلك بطريقة غير محسوسة وبشياكة، وهذا ما فعله أسامة كمال بالضبط.
كانت أسئلته تبدو عادية ولكنها تحمل مغزى عميقًا لرجل الشارع، وهذا ما أطلقه المذيع في نهاية الحلقة وأفصح عنه، وهو أول توجه يظهره بأن هدفه من اللقاء هو الوصول لرجل الشارع. كان سؤاله عن عدد الأيام التي يعملها الوزير لقطاع الثروة المعدنية سؤالًا غاية في الخبث وإن بدا غير ذلك. وهو نفس السؤال الذي فُرض على المهندس كامل الوزير بعد توليه حقيبة الصناعة مع النقل، وأثارت إجابته لغطًا كبيرًا، ولكن-وللحقيقة -لم يقع الوزير في هذا الفخ، وأعطى لنفسه يوم إجازة لأنه بشر، وقسم أيام الأسبوع الأخرى بين التعدين والبترول لأنها في الأخير وزارة واحدة.
حاول المذيع استدراج الوزير لمساحة يجعله فيها يتحدث عن إنجازاته، وكان الرد دائمًا بكلمة تكررت كثيرًا في حديثه وهي (العمل التكاملي)، وكان يحاول أن يصيغ المعنى الدارج بالإنجليزية للعمل الجماعي Integration. ولم يذكر الوزير أي لفظ بالإنجليزية سوى كلمة واحدة هي Maintenance وتداركها سريعًا باللغة العربية.
أما السؤال الصعب الذي أجاد فيه الوزير بحق بمناورة مضادة للمذيع، فكان عندما سأله عن حقل ظهر وماذا حدث به؟ كنا جميعًا ننتظر الإجابة، ولكن الوزير أفلت من هذا الكمين، ودخل في طمأنة الشعب أن كل شيء على ما يرام، وأن حقل ظهر ما زال أكبر الحقول المصرية، وأنه يمثل حوالي ربع إنتاج البلاد، وأن هناك جهودًا لتنميته بعودة جهاز الحفر إليه. إجابة لم تتطرق إلى أي مشاكل كان يمكن التقاطها وصنع زوبعة حولها لا يعلم مداها إلا الله. لذلك كانت إجابة الوزير غاية في الذكاء، ولم تمكّن أي متصيد من اختيار الكلمات لضرب الدولة كلها، كما أنه لم يذكر اسم أي وزير سابق سلبًا أو إيجابًا، وهذا ذكاء شديد منه.
أيضًا كان حديث الغاز الإقليمي- وبالمعنى الصريح من إسرائيل ومدى تأثرنا به —وهو ما يسبب إزعاجًا كبيرًا لعموم الشعب، قد استهله الوزير بطمأنة الشعب، وهو أسلوب جيد للغاية، وأشار إلى أن كل الخيارات مفتوحة، ولم يحدث أي تغيير في هذا الموضوع حتى الآن، وإن حدث فالوزارة مستعدة تمامًا له، وكانت إجابة في صلب الموضوع وبلا مواربة، ومن أقوى كلمات اللقاء.
أما السؤال الأشهر الذي كان ينتظره الجميع بخصوص ارتفاع أسعار المحروقات، فقد حاول الوزير أن يخفف من وطأته، وقال للمذيع مداعبًا: “بعد الفاصل”، وهذه حركة ذكية لكسر الشد العصبي تجاه هذا السؤال. وتحدث فيه الوزير بكلمات من تصريحات رئيس الحكومة، وأوضح أن عملية التسعير لا تدخل فيها أسعار البترول وحدها، وبالتالي فقد جعل الموضوع سياسة عامة لا خاصة بوزارة البترول، وهو رد سياسي بالطبع، وكان هذا هو المطلوب دون إسهاب أكبر.
الحديث كان مباراة صعبة بالفعل، جعلت المذيع في النهاية يتلمس سياسة الوزير تجاه الإعلام، وأوضح الوزير أن الإعلام جزء من منظومة العمل التكاملي، وأن هناك مسئولين في الوزارة عملهم أن يمدوا وسائل الإعلام بالحقيقة، لأن إخفاءها ليس في صالح أحد. وهو ما جعل المذيع يُظهر شعوره مرة أخرى حين قال: “لا تأمن للإعلام، فهو ينشد الحقيقة مهما كانت الصعاب، ومهما توطدت العلاقات.”
النتيجة أن المذيع لم يستطع أن يستخرج من الوزير مادة مثيرة للجدل طوال الحديث، وبالعكس استطاع الوزير أن يجعل المذيع يُفصح عن بعض سياساته المهنية التي تُعد من أسرار المهنة.
الحديث كان شيقًا كما اعترف المذيع بذلك، وكان اختيار المذيع الهادئ المثقف نقطة إيجابية هامة. المظهر الخارجي للوزير كان أنيقًا ومناسبًا لتوقيت إذاعة البرنامج المسائي، وحديث الوزير الهادئ وصل إلى رجل الشارع، ولأول مرة في تاريخ وزارة البترول. بداية جيدة وخطوة على الطريق الصحيح، ومباراة انتهت بخير وأظهرت وزير البترول في الإطار الشعبي، وهذا مكسب كبير في هذه الأيام الهامة.
يبقى أن نقول: ما حدث في حديث الوزير- ولأول مرة- مع القنوات العامة، هو إنجاز يُحسب للمسئول عن إدارة الإعلام بالوزارة ، بالطبع هو محمد داوود، الذي أختار المذيع والوسيلة ، وعمِل بكل خبرته وقوته وأدبه على أن يُظهر وزيره في أبهى صورة ، وبشكل موضوعي، وقدمه للعامة في قالب يليق بوزير جاء من بلاد بعيدة ليُدير منظومة في بلاد قريبة، وتتجلى قمة النجاح فى أن كل من شاهد الحوار من العامة كان انطباعه عن الوزير بأنه الأكثر حكمة وسياسة وكياسة، وهذا ما أحبط مخططات السوشيال ميديا ، والتي كانت قد سنت سكاكينها لتنال من الوزير ومن لغته ومن شخصه .وكل التحية والتقدير لطاقم إعلام الوزارة من كبيرهم (محمد داوود) لصغيرهم سناً وأرفعهم مكاناً .
المستقبل البترولي