الإثنين 01 سبتمبر 2025 الموافق 09 ربيع الأول 1447

أحمد البري يكتب: شجرة المديرين المثمرة وأرض الإدارة البور

633
المستقبل اليوم

“كلما زادت المسافة بين ما أنت عليه وما تريد أن تكون، كلما زادت هزائمك في الحياة” وهذا مثل صعيدي

الباخرة نورماندي هي سفينة ركاب فرنسية عابرة للمحيطات، صنعت في فرنسا ودخلت الخدمة عام 1935، وكانت في زمنها أكبر وأسرع سفينة ركاب عائمة تعمل بمحرك توربيني “كهربائي”. أما السفينة نورماندي تو المملوكة للريس حنفي شيخ الصيادين، فحدث ولا حرج؛ مركبة بدائية مهلهلة غرقت في الماء بمجرد ملامسته.

وعلى الرغم من حالتها المزرية، لم يجد ملاكها حرجًا في عمل احتفالية وإقامة صوان حضره جمهور، وعزفت فيه الموسيقى إيذانًا ببدء مراسم تسليم المفتاح الذهبي. وكما كتبت سابقًا، قد يبدو المشهد هزليًا لدى البعض، لكنه في جوهره أحد أفضل نماذج التجسيد لحالة الوهم المطعَّم بـ”الفهلوة” التي تُصيب بعض الناس. لكنها أكثر خطورة حين تُصيب بعض الأنظمة الإدارية، لما لها من أثر مباشر على أداء الاقتصاد.

وللتوضيح: فإن الشركات الناجحة والمرشحة للفشل والفاشلة جميعها يجمعها وصف كلمة “شركة”، مثلما تشترك نورماندي مع نورماندي تو في كلمة “سفينة”، لكن الفارق بينهما عظيم.

هنا أوجِّه الدفة نحو الشركات المملوكة للدولة. فبينما تخضع الشركات الخاصة أو ذات رؤوس الأموال الفردية لقوانين السوق المشابهة لقوانين “الانتخاب الطبيعي” — إن نجحت استمرت، وإن لم تكن الأنسب انقرضت وحل محلها كيانات أقوى وأكثر تنافسية — يختلف الأمر تمامًا بالنسبة للشركات الحكومية، التي تظل تحت مظلة الدولة تحميها من المخاطر المالية. وهذا ما يُدخلها في “منطقة الراحة” مع الوقت، ليتحول بعضها إلى شركات كرتونية تسير بقوة الدفع، ويغلب عليها أداء “الرجل الواحد”: رجل يرفع الإيرادات، ثم يأتي آخر فيُضيع ما فعله السابق، لتغيب عنها الاستدامة في الربحية وأهمية دور فريق العمل.

المدير اللميع… نموذج مختزل
•إدارة تسويق مدمجة مع إدارة البيع = هيكل تنظيمي غير منسق، بالإضافة إلى الطبيعة الأوتوقراطية الهرمية.
•رجل يفتقد إلى الحد الأدنى من مهارات التواصل، لا يسمح بالنقاش أو طرح أفكار جديدة، ويرى أن الجزاءات هي أفضل طرق الإدارة “نقلًا عن المرحوم والده”!
•مكتب إداري لا يخفي البذخ في الإنفاق داخل شركة لا تحقق إيرادات.
•قسم لشئون العاملين!! (وهو مسمى عفا عليه الزمن وتم استبداله منذ أعوام بـ “الموارد البشرية”).
•استدانة غير مخططة = نظام محاسبي وتحليل مالي معدوم.

المحصلة: شركة في طريقها إلى الفشل إن لم يُعاد “هندستها إداريًا”. وبالمناسبة، علم الهندسة الإدارية أحد العلوم الحديثة التي تستخدم لإعادة بناء الشركات وفق أساليب تجمع بين الهندسة وعلوم الإدارة.

نورماندي vs نورماندي تو

الفارق الجوهري بينهما كلمة واحدة: الإدارة العلمية. وبين الإدارة العلمية والإدارة العشوائية لا تفصل مسافات شاسعة كما قد يظن البعض، بل جسر صغير اسمه “الإرادة”. وعلى هذا الجسر لافتة كبيرة مكتوب عليها: إقرأ.

نعم… هي تلك الكلمة ذات الأحرف القليلة التي رفعت من شأن قوم وحطّت من شأن آخرين.
إقرأ في كيفية اتخاذ القرار.
إقرأ في الاستراتيجية وكيفية خلقها وإدارتها.
إقرأ في بيئة العمل وسلوك العاملين.
إقرأ في تأهيل المورد البشري وتقويم أدائه.
إقرأ في أي مجال وظيفي، وستصل بنفسك إلى آخر ما وصل إليه هذا العلم.

لكن السؤال المُلح: كيف تصف أمة نفسها بأنها “أمة إقرأ”، بينما هي — بالأرقام والإحصائيات — الأقل قراءة بين سائر الأمم؟
صحيح أن القراءة ليست بساطًا سحريًا ينقل الشعوب من نامية إلى متقدمة بين ليلة وضحاها، لكنها المصباح الأول للعقول، والخطوة الأولى على سلم الوعي، وأساس بناء العقل الناقد. فمن اعتاد الاطلاع صار الكتاب أوفى أصدقائه. أما الكسالى والمتعالون على التعلم والمتشبعون بتضخم الذات، فلهم البيئة المثالية لاحتضان كل آفات التخلف.

الإدارة العشوائية… أرض بور

من أبرز سماتها:
• إدارة بالحدس والأهواء لا بالبوصلة.
• قرارات قائمة على التجربة لمعرفة الخطأ من الصواب.
• شعارات رنانة تخفي خواءً إداريًا.
• مبانٍ مزخرفة ومديرون لامعون، لكن الشركات في حقيقتها ما هي إلا ماكيت كرتوني قد لا يصمد أمام التحول الاقتصادي الجذري في مصر.

الإدارة العشوائية لا تخلق سوى أرض بور؛ قليلًا ما تُنبت كفاءات، وإن وُجدت شجرة مثمرة قد لا ترى أوراقها ضوء الشمس.

هذا ليس سوداوية في الطرح، وإنما دعوة متواضعة للحاق بباخرة العلم والمعرفة… فلعلها تكون المنجية.والسلام.




تم نسخ الرابط