وائل عطية يكتب: بين انخفاض الإنتاج المحلي واتساع الفرص الدولية… هل تدخل مصر سباق انتاج البترول في أفريقيا
قد تبدو الخطوة متأخرة، لكنها - كما يقول المثل - أن تصل متأخرًا خيرٌ من ألا تصل أبدًا. فالتاريخ الحديث مليء بتجارب دول اعتمدت على شركاتها الوطنية والخاصة للتوسع خارجيًا، فنجحت في تأمين احتياجاتها من البترول والغاز عبر استثمارات مدروسة خارج حدودها. واليوم، وبينما تتحرك دول أفريقيا وجنوب شرق آسيا بخطوات واسعة لاستغلال مواردها، تبدو الفرصة متاحة أمام مصر للانضمام إلى هذا المسار الذي لم يعد رفاهية، بل ضرورة.
في هذا الإطار، أعلنت هيئة تنظيم البترول النيجيرية إطلاق المزايدة العالمية 2025 للاستكشاف والإنتاج، ضمن برنامج يمتد من ديسمبر 2025 إلى أكتوبر 2026، ويشمل مراحل تأهيل وعطاءات فنية وتجارية موجهة للشركات القادرة على تطوير ثروات نيجيريا الهيدروكربونية في واحدة من أغنى مناطق القارة.
هذه المزايدة ليست إجراءً روتينيًا، بل تمثل جزءًا من استراتيجية تحول تتبناها نيجيريا لرفع احتياطاتها إلى 50 مليار برميل، وزيادة إنتاج الغاز إلى 12 مليار قدم مكعب يوميًا، والوصول بإنتاج الخام إلى 3 ملايين برميل يوميًا خلال المدى المتوسط. وهي خطوات تأتي في ظل قانون الصناعة البترولية لعام 2021 الذي وفر إطارًا تشريعيًا أكثر صرامة وشفافية.
بينما تتوسع نيجيريا، تواجه مصر تحدّيًا متزايدًا يتمثل في الانخفاض التدريجي لإنتاج الزيت الخام نتيجة نضوب الحقول القديمة وارتفاع تكلفة تطوير الحقول المتقادمة، فضلًا عن محدودية الاكتشافات الجديدة التي بالكاد تعوض الانخفاض الطبيعي.
ورغم الجهود المستمرة لتعظيم الإنتاج المحلي، تبقى الحقيقة واضحة: موارد مصر محدودة مقارنة باحتياجاتها الحالية والمستقبلية، والإنجاز الواقعي على المدى القريب والمتوسط هو الحفاظ على مستويات الإنتاج الحالية ومقاومة التراجع الطبيعي.
من هنا تبرز الحاجة، بل والضرورة إلى التفكير خارج الصندوق. فقد أصبح الوقت ضيقًا، ولم يعد مقبولًا الاكتفاء بما في اليد أو التمسك بقواعد تنظيمية لم تعد مناسبة للضغوط التي يواجهها قطاع البترول والغاز المصري. الإصغاء لآراء الخبراء، واستكشاف الأسواق الخارجية، وبدء التحرك الاستباقي… أدوات باتت واجبة لا اختيارية.
على صانعي القرار الخروج من إطار المحلية الضيق نحو البحث الجاد عن الفرص الجديدة، بعيدًا عن خطاب التخويف الذي يبالغ في حجم المخاطرة. فبحسب ما هو معلن، بلغت فاتورة استيراد الغاز لسد الفجوة هذا العام نحو 8 مليار دولار، وهو رقم يوضح حجم التحدي بالإضافة الي تكلفة فاتورة استيراد باقي المنتجات البترولية لتغطية احتياجات السوق المحلي.
كما أن انشغال شركات البترول العالمية بالتحول الطاقي يفتح نافذة يمكن لمصر استغلالها للتقدم في مناطق عديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق.
ورغم وجود تجارب سابقة، مثل تجربة الهيئة المصرية العامة للبترول مع كويت إنيرجي في العراق - فإن مصر أحجمت عن استكمال خطوات مشابهة في الجزائر والعراق لأسباب غير واضحة، فيما أصبحت الحاجة اليوم أكثر إلحاحًا.
والسؤال هنا لماذا نيجيريا؟
والإجابة لأن نيجيريا تبحث اليوم عما تتميز به مصر منذ عقود:
• إدارة وتطوير الحقول المتقادمة بكفاءة عالية وتكلفة منخفضة.
• تشغيل مناطق إنتاج متباعدة ومعقدة فنيًا.
• تنفيذ عمليات استكشاف في بيئات صعبة.
• تقديم حلول تشغيل مرنة وفعالة في ظروف تتطلب خبرات عملية راسخة.
هذه ليست مجرد مهارات… بل ميّزة مصرية خالصة تبلورت في خليج السويس والصحراء الغربية والشرقية والبحر المتوسط، وأثبتت حضورها عبر شركات مثل إنبي، بتروجت، الحفر المصرية، وغيرها من الكيانات الحكومية والخاصة التي تعمل في انحاء افريقيا والشرق الأوسط.
يمكنني ان اقترح ثلاث مسارات واقعية لبدء التحرك الخارجي تتمثل في
- شراكات مصرية – عالمية
شركات مصرية تدير العمليات، وشركات عالمية للخدمات مثل شلمبرجير صانعة الابطال لتوفر التكنولوجيا المتقدمة وهو نموذج أثبت نجاحه في أفريقيا والشرق الأوسط.
- تحالفات داخل قطاع البترول المصري تقوده شركة قائمة بالعمليات وتحالف شركات الخدمات البترولية المصرية في كيان قوي قادر على المنافسة بدلًا من التشتت الذي يقلل فرص الفوز بالمزايدات الكبرى.
- تأسيس شركة مساهمة للمصريين العاملين بالخارج، شركة مدرجة في البورصة لاستثمار مدخراتهم في مشروعات بترول خارجية ذات عائد مضمون، بإدارة مهنية ورقابة محايدة، وهو نموذج معمول به عالميًا ويمثل قيمة مضافة للاقتصاد.
إذا نجحت مصر في دخول هذه الأسواق بثقة ومهنية ودون مجاملات أو محاباة فإن المكاسب ستكون واسعة تتمثل في تعويض جزء من تراجع إنتاج الزيت المحلي عبر عوائد خارجية وفتح فرص عمل واسعة أمام الخبرات والكوادر المصرية بالإضافة الي تعزيز النفوذ المصري في مناطق استراتيجية وخلق نماذج استثمارية جديدة تدعم الاقتصاد الوطني وهذا يتماشى مع التوصيات المتكررة التي تصرّ القيادة السياسية على توجيهها للقيادات التنفيذية لتقليل الضغط على الميزان التجاري وخلق فرص بديلة لتغطية طلبات السوق المحلية دون اللجوء للضغط على العملة الأجنبية بزيادة فاتورة الاستيراد.
إن مزايدة نيجيريا 2025، أو غيرها من الفرص حول العالم، ليست مجرد باب يُفتح، بل اختبار لمدى استعداد مصر لإعادة صياغة استراتيجيتها في ملف الطاقة.
ومع استمرار تراجع إنتاج الزيت محليًا، لم يعد ممكنًا الاعتماد على الأساليب التقليدية، ولا تجاهل التحديات التي تمس أمن الطاقة والأمن القومي.
ويبقى السؤال الأهم:
هل ستتحرك مصر لاقتناص الفرص الخارجية التي تتوافق مع قدراتها وخبرتها، أم ستظل أسيرة حدودها بينما تعيد دول أخرى رسم مستقبل صناعة البترول والغاز؟